خطبة حجة الوداع

أَيُّهَا النَّاس، اِسْمَعُوا قَوْلِي فَإِنِّي لاَ أَدْرِي لَعَلِّيَ لاَ أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا بِهَذَا المَوْقِفِ أَبَدَا.

أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، وَكَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا.

وَإِنَّكُمْ سَتُلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ وَقَدْ بَلَّغْتُ.

فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَن ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا.

وَإِنَّ كُلَّ رِبًا مَوْضُوعٌ، وَلَكِنْ لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ. قَضَى اللهُ أَنَّهُ لاَ رِبًا، وَأَنَّ رِبَا عَبَّاس بن عبد المطلب مَوْضُوعٌ كُلُّهُ. وَأَنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَنَّ أَوَّلَ دِمَائِكُمْ أَضَعَ دَمَ ابن ربيعة ابن الحارث بن عبد المطلب…

أَمَّا بَعْد أَيُّهَا النَّاسُ،

فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ أَبَدَا.

وَلَكِنَّهُ إِنْ يُطَعْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَقَدْ رَضِيَ بِهِ مِمَّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَاحْذَرُوهُ عَلَى دِينِكُمْ.

أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ النَّسِيءَ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يَضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا، يُحِلُّونَهُ عَامًا، وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا، لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ، فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ، وَيُحَرِّمُوا مَا أَحَلَّ اللهُ.

وَإِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ. وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةُ حُرُم، ثَلاَثَة مُتَوَالِيَّة وَرَجَب مُفرَد الذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَان.

أَمَّا بَعْدَ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ حَقًّا. لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلاَّ يُوطِئْنَ فُرُوشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، وَعَلَيْهِنَّ أَلاَّ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيَّنَةٍ. فَإِنْ فَعَلْنَ فَإنَّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَهْجِرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَتَضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ. فَإِنْ انْتَهَيْنَ فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكَسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ. وَاسْتَوْصَوْا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٍ لاَ يَمْلِكْنَ لِأَنْفُسِهِنَّ شَيْئًا. وَإِنَّكُمْ إِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَاتِ اللهِ.

فَاعْقِلُوا، أَيُّهَا النَّاسُ، قَوْلِي، فَإِنِّي قَدْ بَلَّغْتُ.

وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلنْ تَضِلُّوا أَبَدًا أَمْرًا بَيِّنًا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ.

أَيُّهَا النَّاسُ، اِسْمَعُوا قَوْلِي وَاعْقِلُوهُ.

تَعَلَّمُنَّ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ أَخٌ لِلْمُسْلِمِ، وَأَنَّ المُسْلِمِينَ إِخْوَةٌ، فَلاَ يَحِلُّ لامْرِئ مِنْ أَخِيهِ إِلاَّ مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ، فَلاَ تَظْلِمُنَّ أَنْفُسَكُمْ.

اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت.

أداء مناسك الحجّ: وفي الثامن من ذي الحجّة، يوم التّرويّة، ذهب محمّد إلى منًى، فأقام بخيامه فيها وصلّى فروض يومه بها وقضى الليل حتى مطلع فجر يوم الحجّ، فصلّى الفجر وركب ناقته القَصْواء حين بزغت الشمس ويمّم بها جبل عَرَفات والنّاس من ورائه.

فلمّا ارتقى الجبل أحاط به ألوف المسلمين يتبعونه في مسيرته، ومنهم المُلَبِّي وَمنهم المُكَبِّر وهو يسمع ذلك ولا ينكر على هؤلاء ولا على هؤلاء.

وَضُرِبت للنبي قبّة بِنَمِرَة، (قرية بشرق عرفات) وكان ذلك بعض ما أمر به. فلما زالت الشمس أمر بناقته القصواء فرُحِلَت، ثمّ سار حتّى أتى بطن الوادي من أرض عُرَنة، وهناك نادى في الناس وما يزال على ناقته بصوت جَهْوَرِيٍّ كان يردّده مع ذلك من بعده ربيعَة ابن أُميّة بن خلف ؛ وهو يقف بين عبارة وأخرى قائلا بعد أن حَمِد الله وأثنى عليه:

–       خطبة حجة الوداع-

–               كان النبي يقول هذا وربيعة يردّده من بعده مَقْطَعًا مَقْطَعًا، ويسأل النّاس أثناء ذلك ليحتفظ بيقظة أذهانهم. فكان النبيّ يكلّفه أن يسألهم مثلا: إن رسول الله يقول: هَلْ تَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ فيقولون: يوم الحج الأكبر. فيقول النبي: قل لهم: إنّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَاَمْوَالَكُمْ إِلَى أَنْ تَلْقُوا رَبَّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا.

–               فلما بلغ خاتمة كلامه وقال: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ؟ أَجَابَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ: نَعَمْ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ

–               ولما أتم النبي خرطابه نزل عن ناقته القصواء وأقام حتّى صلّى الظهر والعصر ثمّ ركبها حتّى بلغ الصَّخَرَات.

–               هناك تلا عليه السلام على الناس قول الله تعالى:

–               (5)المائدة3:…اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا…

–               فلما سمعها أبوبكر بكى أن أحسّ أن النبي وقد تمّت رسالته قد دنا يومه الذي يلقى فيه ربّه.

–               وترك النبي عرفات وقضى ليله بالمُزدَلِفَةِ، ثمّ قام في الصباح فنزل بالمشعر الحرام، ثمّ ذهب إلى منًى وألقى في طريقه إليها الجَمَرَات ؛ حتّى إذا بلغ خيامه نحر ثلاثا وستين ناقة، واحدة عن كل سنة من سني حياته، ونحر عليّ ما بقي من الهدي المائة التي ساق النبيّ منذ خروجه من المدينة. ثمّ حلق النبيّ رأسه وأتمّ حجّه. أتم هذا الحجّ، يسمّيه بعضهم حِجَّةُ الوَدَاعِ وآخرون حِجَّةُ البَلاَغ، وغَيرهم حِجّة الإِسْلاَم.

–               وهي في الحق ذلك كلّه.

–               فقد كانت حجّة الوداع، رأى فيها محمد مكّة والبيت الحرام للمرّة الأخيرة.

–               وكانت حجّة الإسلام، أكمل الله فيها الناس دينه وأتمّ عليهم نعمته.

–               وكانت حجّة البلاغ، أتمّ النبيّ فيها بلاغه للناس ما أمره الله ببلاغه.

–               وما محمّد إلاّ نذير وبشير لقومٍ يُؤمنون.

 

-من كتاب حياة محمد لمحمد حسين هيكل-

ص 472-475

إعداد: محمد بن أحمد باغلي