الباب السابع والخمسون

من كتاب سراج الملوك للطرطوشي 1059-1126م

في تحريم السعاية والنميمة وقبحهما

وما يؤل إليه أمرهما من الأفعال الرديئة والعواقب الذميمة

قال الله تعالى

ٍوَلاَ تُطِع كُلّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاع لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيم

فذكر الله تعالى في القرآن أصناف أهل الكفر والإلحاد والتثليث وأهل الدّهر والظلم والفسوق وأشباههم، ولم يسبّ الله سبحانه أحدا منهم إلا النمام في هذه الآية

وحسبك بها خسة ورذيلة وسقوطا وضعة

وهذ الآية نزلت في الوليد بن المغيرة  في اصحّ الأقوال

والهماز المغتاب الذي يأكل لحوم الناس الطاعن فيهم

وقال الحسن البصري

هو الذي يغمز بأخيه في المجلس وهو الهُمَزَة اللمَزَة

والعتل في اللغة الغليظ، وأصله من العتل وهو الدفع بالقوة والعنف

وقال على رضي الله عنه والحسن البصري

العتل الفاحش السيء الخلق

وقال ابن عباس

العتل الفاتك الشديد المنافق

وقال عبيد بن عمير

العتل الأكول الشروب القوي الشديد يوضع في الميزان لا يزن شعيرة

وقال يمان

هو الجافي القاسي اللئيم العسر

وقال مقاتل

العتل الضخم

وقال الكلبي

الشديد في كفره عند العرب عتل وقيل العتل الشديد الخصومة بالباطل

والزنيم هو الذي لا يعرف من أبوه

قال حسان بن ثابت

وأنت زنيم ينط في آل هاشم  *   كما نيط خلف الراكب القدح الفرد

وقال غيره

زنيم ليس يعرف من أبوه *  بغيّ الأمّ ذو حسب لئيم

وقال أكثر النقلة

هذا الرجل إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة

وعن هذا قال القدماء

لا يكون نماما إلا وفي نسبه شيء

********************************

سعى رجل إلى بلال بن أبي بردة برجل وكان أمير البصرة

فقال له انصرف حتى أكشف عنك

فكشف عنه فإذا هو لغير رشدة يعني ولد زنا

**************************************

 وقال أبو موسى الأشعري لا يبغي على الناس إلا ولد بغي

**************************************************

وقيل الزنيم الذي له زنمة في عنقه يعرف بها كما تعرف الشاة

******************************************************

قال ابن عباس لما وصفه الله تعالى بتلك الحال المذمومة لم يعرف حتى قيل زنيم فعرف لأنه كانت له زنمة يعرف بها كما تعرف الشاة بزنمتها

******************************************

ومن ذلك قول الله تعالى

يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ

فتبينوا إن تصيبوا قوما بجهالة 

نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معط بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق بعد الوقعة وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية فخرجوا يتلقونه تعظيما لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ففزع ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال منعوني صدقاتهم وأرادوا قتلي

فغضب النبي صلى الله عليه وسلم عليهم

ثم كشف أمرهم فوجد ما قاله كذبا فنزلت هذه الآية وسماه الله تعالى فاسقا

********************

 ومن ذلك قول الله سبحانه

سماعون للكذب

أكالون للسحت

فشرك الله تعالى بين السامع والقائل في القبح

وساوى بينهم في الذم

فكان فيه تنبيه على أن السامع نمام في الحكم

***************************************

وأما ما روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم

فروى مسلم في الصحيح قال همام كنا مع حذيفة فقيل له أن رجلا يرفع الحديث إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال حذيفة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول

لا يدخل الجنة قتات

وفي لفظ آخر

نمام

*********************

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال 

ألا أخبركم بشراركم

قالوا

بلى يا رسول الله

قال

من شراركم

المشاؤن بالنميمة المفسدون بين الأحبة الباغون العيوب

*********************************

وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال

ملعون ذو الوجهين

ملعون ذو اللسانين

ملعون كل سفار

السفار المحرش بين الناس يلقي بينهم العداوة

ملعون كل قتات

القتات المنان

ملعون كل منان

المنان الذي يعمل الخير ويمن به

************************************

وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال

إنهما ليعذبان وما يعذبان في كثير

أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول

وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة

فأخذ جريدة رطبة فشقها بنصفين فغرز في كل قبر واحدة فقالوا 

يا رسول الله لم فعلت هذا

قال

لعله يخفف عنهما ما لم يبيسا

وذلك لبركة يده صلى الله عليه وسلم

**********************************************************************************

 السعاية

وأما السعاية إلى السلطان وإلى كل ذي قدرة ومكنة فهي المهلكة الحالقة تجمع إلى الخصال المذمومة الغيبة ولؤم النميمة والتغرير بالنفوس والأموال والقدح في المنازل والأحوال، وتسلب العزيز عزه، وتحط المسكين عن مكانته، والسيد عن مرتبته

فكم من دم أراقه سعي ساع  وكم حريم استبيح بنميمة باغ  وكم من صفيين تقاطعا ومن متواصلين تباعدا ومن محبين تباغضا ومن ألفين تهاجرا ومن زوجين تفارقا 

فليتق الله ربه رجل ساعدته الأيام وتراخت عنه الأقدار أن يصيخ لساع أو يسمع لنمام

***********************

وروى ابن قتيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال

الجنة لا يدخلها ديوث ولا قلاع

فالديوث الذي يجمع بين النساء والرجال سمي بذلك لأنه يدث بينهم

والقلاع الساعي الذي يقع في الناس عند الأمراء لأنه يقصد الرجل المتمكن عند السلطان فلا يزال يقع فيه حتى يقلعه

***************************

وقال كعب

أصاب الناس قحط شديد على عهد موسى صلى الله عليه وسلم فخرج موسى يستسقى ببني إسرائيل فلم يسقوا ثم خرج ثانية فلم يسقوا ثم خرج  الثالثة فأوحى الله تعالى إليه

إني لا أستجيب لك ولا لمن معك فإن فيكم نماما

فقال

يا رب من هو حتى نخرجه من بيننا

فأوحى الله تعالى إليه

يا موسى أنهاكم عن النميمة وآتيها

فتابوا

فأرسل الله سبحانه عليهم الغيث

******************************

ولما لقي  أسقف نجران عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له

يا أمير المؤمنين احذر قاتل الثلاثة

قال

ومن قاتل الثلاثة

قال

الرجل يأتي الإمام بالحديث الكذب فيقبله الإمام

فيكون قد قتل نفسه وصاحبه وإمامه

فقال عمر

ما أراك أبعدت

*****************************

ووجدنا في حكم القدماء

أبغض الناس إلى الله المثلث

قال الأصمعي

هو الرجل يسعى بالنميمة بأخيه إلى الإمام فيهلك نفسه وأخاه وإمامه

***************************

وذكرت السعاية عند المأمون فقال

لو لم يكن من عيبهم إلا أنهم أصدق ما يكونون أبغض ما يكون عند الله تعالى

**************************

وقال حكيم الفرس

الصدق زين كل أحد إلا السعاية

فإن الساعي أذم وآثم ما يكون إذا صدق

**************************

وروي أن رجلا سعى بجار له  عند الوليد بن عبد الملك

فقال له الوليد

أما أنت فتخبرنا أنك جار سوء إن شئت أرسلنا معك فإن كنت صادقا أبغضناك وإن كنت كاذبا عاقبناك وإن شئت تاركناك

قال

تاركني يا أمير المؤمنين

قال

قد تاركناك

*********************************

ولله درّ الإسكندر حين وشي إليه برجل فقال له الإسكندر

إن شئت قبلناك على صاحبك بشرط أن نقبله عليك

وإن شئت أقلناك

 قال

أقلني

قال

قد أقلناك

كف عن الشر يكف عنك الشر

 **************************************

ومن العجب الذي لا عجب بعده، أن الرجل يشهد عندك في باقة بقل، فلا تقبله حتى تسأل الناس عنه، هل هو من أهل الثقة والعدالة والأمانة والصيانة، ثم ينم عندك بحديث فيه الهلاكوفساد الأحوال فتقبله

************************************

وقال يحيى بن زيد

قلت للحسن بن علي رضي الله عنهما لما سقي السم

أخبرني من سقاك

 فدمعت عيناه  وقال

أنا في آخر قدم من الدنيا وأول قدم من الآخرة تأمرني أن أغمز

*******************************

قال رجل للمهدي

عندي نصيحة يا امير المؤمنين

قال المهدي

ليس الساعي بأعظم عورة ولا أقبح حالا ممن قبل سعايته

ولا تخلو من أن تكون حاسد نعمة فلا نشفي لك غيظا

أو عدوا فلا تعاقب لك عدوك

ثم أقبل على الناس وقال

أيها الناس لا ينصح لنا ناصح

إلا بما لله فيه رضا

وللمسلمين فيه صلاح

********************************

وروي أن ساعيا سعى برجل إلى الفضل بن سهل، فوقع على ظهر كتابه

نرى قبول السعاية أشر من السعاية

لأن السعاية دلالة والقبول إجازة

وليس من دلّ على شيء كمن قبل وأجاز

لأن من فعل أشر ممن قال

***********************************

ويروى أن رجلا رفع إلى المنصور نصيحة، فوقع على ظهرها

هده نصيحة لم يرد بها وجه الله تعالى

ولا جواب  عندنا لمن  آثرانا على الله تعالى

****************************************

وروي أن رجلا قال للمأمون

 يا أمير المؤمنين

الله الله في أصحاب الأخبار

فإنهم قوم إن أعطوا كذبوا وإن حرموا كذبوا

فإن أعطوا مدحوا وهم كاذبون وإن حرموا كذموا وهم كاذبون

قال المأمون

لله درها من كلمة ما أقصدها وأبين فضلها

وأمر أن نثبت في أمور أصحاب الأخبار

************************************

وقال مروان بن زنباع العبسي

يا بني عباس احفظوا على ثلاثا

من نقل إليكم نقل عنكم

وإياكم والتزويج في البيوتات السوء

واستكثروا من الصديق ما استطعتم

واستقلوا من العدو ما استطعتم فإن استكثاره ممكن

***********************************

وقال بعض الحكماء

احذروا أعداء العقول ولصوص المودات

وهم السعاة والنمامون

إذا سرق اللصوص المتاع سرقوا المودات

**************************************

وقال حكيم العرب

إياك والسعاة

فإنهم أعداء عقلك ولصوص عدلك

فيفرقون بين قولك وفعلك

*********************************************

وفي المثل السائر

من أطاع الواشي ضيع الصديق

وقد يقطع الشجر فينبت، ويقطع اللحم بالسيف فيندمل واللسان لا يندمل جرحه

وأحق الناس برعاية ما رسمته من هذه الخلال ونقلته من هذه الحكم واستودعته من هذه السير من آتاه الله سلطانا ومكن له في الأرض قدما فذو القدرة إذا أطاع الواشي هلك العالم

وكان بعض الحكماء يقول

من أراد أن يسلم من الإثم ويبقى له الإخوان فيجعل نفسه بينه وبينهم قاضيا عدلا ويحكم بالعدل ولا يقبل أحدا في أحد ولا في نفسه إلا بشهود وتعديل فإنا قد أحببنا بقول أقوام وأبغضنا بقول آخرين فأصبحنا نادمين

****************************

ومن لطيف حكمة الله تعالى في النميمة لما علم من شؤمها واستطارة شرورها وعموم مضرتها في الورى

حكم بفسق النمام حتى لا يقبل له قول فيستريح الخلق من شره

******************************

وقال ابن عمر

 وفد الله الحاج ووفد الشيطان

قوم يرسلهم السلطان إلى الناس ويسألهم عن حالهم فيخبرونه أن الناس راضون وليسوا براضين

واعلموا أن الله تعالى خلق الإنسان على أنحاء شتى لسنا نذكرها الآن لكثرتها وطول تتبعها

فخلق الله الحواس من الشريفة والأعضاء النافعة النفيسة

فمن أفضل ما ركب فيه اللسان الذي هو آلة النطق والبيان وبه فصل بينه وبين البهائم ثم فضله على سائر الحيوان وامتن عليه في أول سورة الرحمن فقال تعالى

الرحمن علم القرءان خلق الانسان علمه البيان

وخلق فيه أعضاء تذلل وتستهان وجعلها مجرى لفضول الطعام والشراب

فمن يتبع سقطات الكلام ويروي عثرات الأنام التي هي كالعورات الواجب سترها ودفنها كان قد استعمل أشرف الآلات في أخس المستعملات فصار كمن لحس بلسانه سوأة أخيه وجعل أكرم جوارحه لأخس أجناس المستعرضين ورضي أن يقع من الناس موقع الذباب من الطير يتنبع ثفل الجسد ويتحامى صحيحه

وقد كان له في نشر المحاسن شغل ولكن أهل كل ذي حال أولى بها وفي هذا سبق المثل

إن لم تكن ملحا تصلح فلا تكن ذبابا تفسد

ومن لم يقدر على جميع الفضائل فلتكن همته ترك الرذائل

وإذا تتبع الإمام عورات الناس أفسدهم

*******************************

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم همّ بالخروج يوما فسمع قوما من أصحابه يضحكون فامتنع من الخروج إليهم حذر أن لا يفسد قلبه عليهم

ولو علم الذي يسمع أخبار الناس ما جنى على نفسه لعلم أن الصمم كان أهنأ لعيشه وأنعم لباله من سماع الأخبار

يا واحد ماذا عمل نقلة الأخبار

حملوا إليك الصدق أو الكذب فتكون في سماع الكذب ممن قال الله تعالى فيه

سماعون للكذب أكالون للسحت

ويكون في سماع الصدق حالا للهم حرج الصدق على الخلق معاديا لهم متتبعا لعثرات الخلق وخزانا لسقطاتهم

قد وعيت منهم ما يجب ستره وحفظت ما يجب نسيانه ثم لا تستطيع النصفة من قائل لأنك إن كنت ذا قدرة أهلكت الرعية ثم لا تستطيع أن تهلك جميع الرعية وإن كنت سوقة لم يشف غيظك

ثم أفسدت إخوانك وأبغضت من يجب أن تحبه وأحببت من يجب أن تبغضه

ثم لا تزال تتحمل الخسائف وتزيد الأحقاد والضعائن وترصد لكل قائل يوما يشفي صدرك فيه فما أغنى العاقل عن هذه البلية

ولله در عمر بن العاص  روي أنه لاحاه رجل يوما فقال له الرجل

أما والله إن عشت لا تفرغن لك

فقال له عمرو بن العاص

 الآن وقعت في الشغل يا ابن أخي

**********************************

من كتاب سراج الملوك لأبي بكر محمد الطرطوشي 1059-1126م

إعداد: محمد بن أحمد باغلي