الباب الثامن والسبعون ومائة

من كتاب الفتوحات المكية

للشيخ سيدي محيي الدين ابن العربي

في معرفة مقام المحبّة وأسرارها

***

الحُبُّ يُنْسَبُ لِلإِنْسَانِ وَاللهِ * بِنِسْبَةٍ لَيْسَ يَدْرِي عِلْمُنَا مَا هِي

الحُبُّ ذَوْقٌ وَلاَ تَدْرِي حَقِيقَتَهُ * أَلَيْسَ  ذَا  عَجَبٌ   وَاللهِ   وَاللهِ

***

لَوَازِمُ الحُبِّ تَكْسُونِي هُوِيَّتُهَاثَوْبَ النَّقِيضَيْنِ مِثْلَ الحَاضِرِ السَّاهِي

بِالحُبِّ صَحَّ وُجُوبُ الحَقِّ حَيْثُ يَرَىفِينَا وَفِيــهِ   وَلَسْنَا   عَيْنُ   أَشْبَاهِ

أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِمَّا قُلْتُ فِيهِ وَقَدْ * أَقُولُ  مِنْ  جِــهَةِ  الشُّكْــرِ لِلَّهِ

***

وَمِمَّا يَتَضَمَّنُ هَذَا البَابُ أَيْضًا قَوْلُنَا:

أَحْبَبْتُ ذَاتِي حُبَّ الوَاحِدِ الثَّانِيوَالحُبُّ مِنْهُ طَبِيعِيٌّ وَرُوحَانِي

وَالحُبُّ مِنْهُ إِلَـهِيٌّ أَتَتْكَ بِــهِ أَلْفَاظُ نُورِ هُدَى فِي نَصِّ قُرْآنِ

وَقَدْ سَأَلْتُ وَمَا أَدْرِي سُؤَالُكُمْ عَنْ أَيِّ حُبٍّ وَلاَ عَنْ أَيِّ مِيزَانِ

فَكُلُّ حُبٍّ لَهُ بُــدءٌ يُحَقِّقُهُ *  عِلْمِي سِوَى حُبُّ رَبِّ مَا لَهُ ثَانِي

وَكُلُّ حُبٍّ لَهُ بُـدْءٌ وَلَيْسَ لَهُ * نِــهَايَةٌ غَيْرَ حُبُّ الطَّبْعِ وَاِثْنَانِ

لاَ يُوصِفَانِ إِذَا حَقَّقْتُ شَأْنَهُمَا * وَمَا هُــمَا بِنِـهَايَاتٍ وَنُقْصَانِ

فَغَايَةُ الحُبِّ فِي الإِنْسَانِ وَصْلَتُهُ * رُوحًا بِرُوحٍ وَجُثْمَانًا بِجُثْمَانِ

وَغَايَةُ الوَصْلِ بِالرَّحْمَنِ زَنْدَقَةٌ * فَإِنَّ إِحْسَانََــهُ جُزْءُ إِحْسَانِ

إِنْ لَمْ أُصَوِّرُهُ لَمْ تَعْلَمْ بِمَنْ كَلْفَتْ * نَفْسِي وَتَصْوِيـرُهُ رَدٌّ لِبُرْهَانِ

***

وَمِمَّا يَتَضَمَّنُ هَذَا البَابُ أَيْضًا قَوْلُنَا:

أَنَا مَحْبُوبُ الهَوَى لَوْ تَعْلَمُوا *  وَالهَوَى مَحْبُوبُنَا لَوْ تَفْهَمُوا

فَإِذَا أَنْتُمْ فَهَمْتُمْ غََرَضِي  *  فَاحْمَدُوا اللهَ تَعَالَى وَاعْلَمُوا

مَا لِقَوْمِي عَنْ كَلاَمِي أَعْرَضُوا *  أَبِهِمْ عَنْ دَرْكٍ لَفْظِي صَمَمُ

مَا لِقَوْمِي مِنْ عِيَانٍ مَا بَدَى*  مِنْ حَبِيبِي فِي وُجُودِي قَدْ عَمُوا

لَسْتُ أَهْوَى أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ * لاَ وَلاَ غَيْرَ وُجُودِي قَدْ عَمُوا

مُذْ تَأَلَّهْتُ رَجَعْتُ مُظْهِرًا * وَكَذَا كُنْتُ فَبِي اِعْتَصِمُوا

أَنَا حَبْلُ اللهِ فِي كَوْنِكُمْفَالْزِمُوا البَابَ عُبَيْدًا وَاخْدِمُوا

وَإِذْ قُلْتُ هَوَيْتُ زَيْنَبًا * أَوْ نِظَامًا أَوْ عِنَانًا فَاحْكُمُوا

إِنَّهُ رَمْزٌ بَدِيعٌ  حَسَنٌ * تَحْتَهُ ثَوْبٌ رَفِيعٌ مَعْلَـــمُ

وَأَنَا الثَّوْبُ عَلَى لاَبِسِــهِ * وَالذِي يَلْبَسُهُ مَا يَعْلَـــمُ

لَيْسَ فِي الجُبَّةِ شَيْءٌ غَيْرَ مَا * قَالَهُ الحَجَّاجُ يَوْمًا فَأنْعَـمُوا

وَحَيَاةُ الحُبِّ لَوْ أَشْهَــدُهُ * لاَعْتَرَانِي لِشُهُودِي بِكُـمُ

مَا يَرَى عَيْنُ وُجُودِ الحَقَّ مِنْ * أَصْلِهِ فِي كُلِّ حَالٍ عَـدَمُ

***

وَمِمَّا يَتَضَمَّنُ هَذَا البَابُ أَيْضًا قَوْلُنَا:

إِنَّ الوُجُودَ لَحَرْفٌ أَنْتَ مَعْنَاهُ *  وَلَيْسَ لِي أَمَلٌ فِي الكَوْنِ إِلاَّ هُو

الحَرْفُ مَعْنَى وَمَعْنَى الحَرْفِ سَاكِنُهُ وَمَا تُشَاهِدُ عَيْنٌ غَيْرَ مَعْنَاهُ

وَالقَلْبُ مِنْ حَيْثُ مَا تُعْطِيهِ فِطْرَتُهُ يَجُولُ مَا بَيْنَ مَغْنَاهُ وَمَعْنَاهُ

عَزَّ الإِلَهُ فَمَا يَحْوِيهِ مِنْ أَحَدٍ * وَبَعْدَ هَذَا فَإِنَّا قَدْ وَسِعْنَاهُ

وَمَا أَنَا قُلْتُ بَلْ جَاءَ الحَدِيثُ بِهِ عَنِ الإِلَهِ وَهَذَا اللَّفْظُ فَحْوَاهُ

لَمَّا أَرَادَ الإِلَهُ الحَقُّ يَسْكُنُهُ * لِذَاكَ عَدَّلَهُ خَلْقًا وَسَوَّاهُ

فَكَانَ عَيْنُ وُجُودِي عَيْنُ صُورَتِهِ * وَحَيُّ صَحِيحٌ وَلاَ يَدْرِيهِ إِلاَّ هُوَ

اللهُ أَكْبَرُ لاَ شَيْءَ يُمَاثِلُهُ  * وَلَيْسَ شَيْءٌ سِوَاهُ بَلْ هُوَ إِيَّاهُ

فَمَا تَرَى عَيْنُ ذِي عَيْنٍ سِوَى عَدَمَ * فَصَحَّ أَنَّ الوُجُودَ المُدْرِكَ اللهُ

فَلاَ يَرَى اللهَ إِلاَّ اللهُ فَاعْتَبِرُوا * قَوْلِي لِيَعْلَمَ مَنْحَاهُ وَمَعْزَاهُ

 ***

وَمِمَّا يَتَضَمَّنُ هَذَا البَابُ أَيْضًا قَوْلُنَا:

فِي وَاقِعَةٍ رَأَيْتُ الحَقَّ فِيهَا يُخَاطِبُنِي بِمَعْنَى مَا فِي هَذِهِ الأَبْيَاتِ، وَسَمَّانِي بِاسْمٍ مَا سَمِعْتُ بِهِ قَطّ إِلاَّ مِنْهُ تَعَالَى فِي تِلْكَ الوَاقِعَةِ وَهُوَ نَرْدِيَار. فَسَأَلْتُهُ تَعَالَى عَنْ تَفْسِيرِ هَذَا اللَّفْظِ، فَقَالَ: مَمْسُوكُ الدَّارِ، وَهِيَ هَذِهِ الأَبْيَاتُ. وَقَدْ تَقَدَّمْتُ فِي هَذَا الكِتَابِ بِأَطْوَلِ مِمَّا هِيَ هُنَا، وَمَا سُقْتُ مِنْهَا هُنَا إِلاَّ مَا وَقَعَ:

مَسَكْتُكَ فِي دَارِي لإِظْهَارِ صُورَتِيفَسُبْحَانَكُمْ مُجَلَّى وَسُبْحَانَ سُبْحَانًا

فَمَا نَظَـرَتْ عَيْنَاكَ مِثْلِي كَامِلاًوَلاَ نَظَرَتْ عَيْنٌ كَمِثْلِكَ إِنْسَانًا

فَلَمْ يَبْقَ فِي الإِمْكَانِ أَكْـمَلَ مِنْكُمْنَصَبَتْ عَلَى هَذَا مِنَ الشَّرْعِ بُرْهَانًا

فَأَيُّ كَــمَالٍ كَانَ لَمْ يَكُ غَيْرُكُمْ * عَلَى كُلِّ وَجْهٍ كَانَ ذَلِكَ مَا كَانَا

ظَهَــرَتْ إِلَى خَلْقِي بِصُورَةِ آدَمَ  * وَقَـرَّرَتْ هَذَا فِي الشَّرَائِعِ إِيمَانًا

فَلَوْ كَانَ فِي الإِمْكَانِ أَكْـمَلَ مِنْكُمْ * لَكَانَ وُجُودُ النَّقْصِ فِيّ إِذَا كَانَا

لِأَنَّكَ مَخْصُوصٌ بِصُورَةِ حَضْـرَتِي  * وَأَكْـمَلَ مِنِّي مَا يَكُونُ فَقَدْ بَانَا

***

وَمِمَّا يَتَضَمَّنُ هَذَا البَابُ أَيْضًا قَوْلُنَا:

اللهُ أَكْبَرُ أَنْ يُخْطِي بِهِ أَحَــــدٌ  *  وَهُوَ الحَبِيبُ العَلِيُّ السَّيِّدُ الصَّمَدُ

الشَّمْسُ تُدْْرِكُنَا وَالشَّمْسُ نُــدْرِكُهَا *  نَعَمْ وَمِنْهَا إِلَيْنَا العَطْفُ وَالرَّفْدُ

وَإِنَّنَا لَنَرَاهَا وَهِيَ ظَاهِــــــرَةٌ *  مِثْلَ التَّجَلِّي وَلَمْ يَظْفَرْ بِهِ أَحَدُ

النُّورُ يَمْنَعُنَا مِنْ أَنْ نُكَيِّفُـــــهَا * فَكَيْفَ مَنْ لاَ لَهُ كَيْفَ فَيَتَّحِدُ

الكَيْفُ وَالكَـمُّ مِنْ نعْتِ الجُسُومِ وَمَا * هُنَاكَ جِسْمٌ وَلاَ حَالٌ وَلاَ عَدَدُ

***

وَمِمَّا يَتَضَمَّنُ هَذَا البَابُ أَيْضًا قَوْلُنَا:

بَادِرْ لِجَبْرِ الَّذِي قَدْ فَاتَ مِنْ عُمْرِكَوَلْتَتَّخِذْ زَادَكَ الرَّحْمَنُ فِي سَفَرِك

وَقُلْ لَهُ بِالهَوَى يَا مُنْتَــهَى  أَمَلِي  *  مَا أَشْوَقَ السِّرُ وَالمَعْنَى إِلَى خَبَرِك

لَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنِّي حِينَ أَبْصِـرُ  مَنْ  *  كَانَ الوُجُودُ بِهِ مَا زِلْتُ مِنْ نَظَرِك

لَوْلاَ الفَنَاءُ وَنَفْيُ المِثْلِ عَنْكَ  وَمَا *  قَدْ جَاءَ عَنْكَ مِنَ الإِحْرَاقِ مِنْ بَصَرِك

مَأ كَانَ لِي أَمَلٌ فِي غَيْرِ مَشْهَدِكُمْ *  وَلاَ قَــرَأْتُ كِتَابًا لَيْسَ فِي سِيَرِك

إِنِّي سَأَلْتُكَ يَا مَنْ لاَ شَبِيــهَ  لَهُ *  أَمْرًا أَرَادَ بِهِ المَحْتُومُ  مِنْ قَــدْرِك

فَقَالَ لِي مِنْ قَضَائِي إِنْ تَرَى قَدْرِي *  يَرُدُّهُ قَدَرِي وَالكُلُّ مِنْ أَثَـــرِك

قَدْ جَاءَكُـمْ عَنْ نَبِيٍّ  فِي إِزَالَةِ مَا *  قَضَيْتُهُ وَبِمَا يَزِيــدُ  فِي عُـمْرِك

لَكُمْ كَلاَمٌ نَفِيسٌ كُلُّــــهُ دُرَرٌ *  وَذَا مِنَ الدُّرِّ فَلْنُلْحِقْـهُ فِي دُرَرِك

 *

وَمِمَّا يَتَضَمَّنُ هَذَا البَابُ أَيْضًا قَوْلُنَا:

وَلَمَّا رَأَيْتُ الحُبَّ يَعْظُمُ قَدْرَهُوَمَا لِي بِهِ حَتَّى المَمَاتَ يُدَان

 تَعَشَّقْتُ حُبَّ الحُبِّ دَهْرِي وَلَمْ أَقُلْ * كَفَانِي الَّذِي قَدْ نِلْتُ مِنْهُ كَفَانِي

فَابْدُ إِلَى المَحْبُوبِ شَـمْسَ  اتِّصَالِهِ *  أَضَاءَ  بِهَا  كَوْنِي  وَعَيْنَ جِنَانِي

وَذَابَ فُؤَادِي خِيفَةً مِنْ جَلاَلِــهِ  *  فَوَقَعَ  لِي  فِي  الحِينِ  خَطُّ  أَمَانِ

وَنَزَّهَنِي فِي رَوْضِ أُنْسِ جَــمَالِهِ *   فَغِبْتُ عنِ الأَرْوَاحِ وَالثَّقَلاَنِ

وَأَحْضَرَنِي وَالسِّــرُّ  مِنِّي  غَائِبٌ *  وَغَيْبَنِي وَالأَمْــــرُ مِنِّي دَانِي

فَإِنْ قُلْتُ أَنَا وَاحِـــدٌ فَوُجُودُهُ *  وَإِنْ أَثْبَتُوا عَيْنِي فَـــمُزْدَوِجَانِ

وَلَكِنَّـــــهُ مَزْجٌ رَقِيقٌ مُنَزَّهٌ *  يَـرَى وَاحِـدًا وَالعَلَمُ يَشْهَدُ ثَانِي

فَقُلْتُ لَهُ وَهُوَ القَوْلُ وَأَنَّــــهُ *  عِبَارَتُهُ المُثْلَى جَـــرَتْ بِلِسَانِ

أَيَا مَنْ بَدَى فِي نَفْسِهِ  لِنُفَيْسِهِ *  وَلاَ عَدَدَ فَالعَيْنُ مِنِّي فَانِي

فَنَفْسُكَ شَاهَـدَتْ النَّفِيسَةَ  مُنْعَمًا * بِنَفْسِكَ وَانْظُرْ فِي المِرْآةِ تَـرَانِي

فَيَا غَائِبًا مَنْ كَانَ هَذَا مَقَامُـــهُ *  يَـرَى فِي جِنَانِ النَّاعِمَاتِ بِجَانِ

فَلاَ وَالَّذِي طَارَتْ إِلَى حُسْنِ ذَاتِهِ *  قُلُوبٌ فَأَفْنَاهَا عَنِ الطَّيَــــرَانِ

****

اِعْلَمْ وَفَّقَكَ اللهُ !

أَنَّ الحُبَّ مَقَامٌ إِلَهِيٌّ، فَإِنَّهُ وَصَفَ بِهِ نَفْسُهُ وَتَسَمَّى بِالـ »وَدُود »، وَفِي الخَبَرِ بِالـ »مُحِبِّ ».

وَمِمَّا أَوْحَى اللهُ بِهِ إِلَى مُوسىا فِي التَّوْرَاةِ:  » يَا ابْنَ آدَمَ، إِنِّي وَحَقِّي لَكَ مُحِبٌّ. فَبِحَقِّي عَلَيْكَ كُنْ لِي مُحِبًّا ».

وَقَدْ وَرَدَتْ المَحِبَّةُ فِي القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي حَقِّ اللهِ وَفِي حَقِّ المَخْلُوقِينَ، وَذَكَرَ أَصْنَافَ المَحْبُوبِينَ بِصِفَاتِهِمْ، وَذَكَرَ الصِّفَاتَ الَّتِي لاَ يُحِبُّهَا اللهُ، وَذَكَرَ الأَصْنَافَ الَّذِينَ لاَ يُحِبُّهُمْ اللهُ،

فَقَالَ تَعَاَلَىا لِنَبِيِّهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آمِرًا أَنْ يَقُولَ لَنَا:

{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ}

وَقَالَ تَعَالَىا{يَــأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}[المائدة:54]،

وَقَالَ فِي ذِكْرِ الأَصْنَافِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ:{إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ}[البقرة:222]، {وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222] {المُطَّهِّرِينَ}[التوبة:108]{يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159] {يُحِبُّ الصَّـبِرِينَ} [آل عمران:146]

وَيُحِبُّ الشَّـكِرِينَ، وَيُحِبُّ المُتَصَدِّقِينَ، {يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]

و{يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَـتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصّفّ:4].

كَمَا نَفَى عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يُحِبَّ قَوْمًا لِأَجْلِ صِفَاتٍ قَامَتْ بِهِمْ لاَ يُحِبُّهَا، فَفَحْوَى الخِطَابُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ زَوَالَهَا،

وَلاَ تَزُولُ إِلاَّ بِضِدِّهَا وَلاَ بُدَّ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ {لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ} [المائدة:64] {لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} [البقرة:205]وضِدُّهُ الصَّلاَحُ. فَعَيْنُ تَرْكِ الفَسَادِ الصَّلاَحُ.

وَقَالَ:{إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ}[القصص:76] {وَلاَ…يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[لقمان:18] و{لاَ يُحِبُّ الظَّـلِمِينَ} [الشورى:40] {وَلاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأنعام:141] و{لاَ يُحِبُّ الكَـفِرِينَ} [الروم:45] و{لاَ يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ} [النّساء:148] وَ{لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} [المائدة:87].

ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ حَبَّبَ إِلَيْنَا أَشْيَاءَ مِنْهَا بِالتَّزْيِينِ وَمِنْهَا مُطْلَقَة. فَقَالَ مُمْتَنًا عَلَيْنَا {وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَـنَ} [الحجرات:7] وَقَالَ:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران:14] الآية.

وَقَالَ فِي حَقِّ الزَّوْجَيْنِ {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] وَنَهَانَا أَنْ نَلْقِيَ بِالمَوَدَّةِ إِلَى أَعْدَاءِ اللهِ فَقَالَ:{لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1] وَالمَحَبَّةُ الوَارِدَةُ فِي القُرْآنِ كَثِيرَةٌ.   

وَأَمَّا الأَخْبَارُ، فَقَوْلُهُ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-عَنِ اللهِ أَنَّهُ قَالَ: »كُنْتُ كَنْزًا لَمْ أُعْرَفْ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُعْرَفَ، فَخَلَقْتُ الخَلْقَ وَتَعَرَّفْتُ إِلَيْهِمْ فَعَرَفُونِي » فَمَا خَلَقَنَا إِلاَّ لَهُ، لاَ لَنَا. لِذَلِكَ قَرَنَ الجَزَاءَ  بِالأَعْمَالِ، فَعَمَلُنَا لَنَا لاَ لَهُ، وَعِبَادَتُنَا لَهُ لاَ لَنَا. وَلَيْسَتِ العِبَادَةُ نَفْسُ العَمَلِ. فَالأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ فِي المَخْلُوقِينَ خَلْقٌ لَهُ، فَهُوَ العَامِلُ، وَيُضَافُ إِلَيْهِ حُسْنُهَا أَدَبًا مَعَ اللهِ مَعَ كَوْنِهَا كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَايهَا} [الشمس:7-8] {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]

وَقَالَ:{اللهُ خَـلِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] فَدَخَلَتْ أَعْمَالُ العِبَادِ فِي ذَلِكَ.

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: »إِنَّ اللهَ يَقُولُ: مَا تَقَرَّبَ المُتَقَرَّبُونَ بِأَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ آدَاءِ مَا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِمْ وَلاَ يَزَالُ العَبْدُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبُّهُ. فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ » الحديث. وَمِنْ هَذَا التَّجَلِّي قَالَ مَنْ قَالَ بِالاِتِّحَادِ ؛ وَبِقَوْلِهِ {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللهَ رَمَىا} [الأنفال:17] ؛ وَبِقَوْلِهِ {وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96].  وَفِي الخَبَرِ: »إِنَّ اللهَ يُحِبُّ كُلَّ مُفْتِنٍ تَوَّابَ » ؛ وَفِي الخَبَرِ: »وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ » ؛ وَفِي الخَبَرِ: »أَحِبُّوا اللهَ لِمَا أَسْدَىا إِلَيْكُمْ مِنْ نِعَمِهِ » ؛ وَفِي الخَبَرِ: »إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ، وَأَنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يُمْدَحَ ». وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: »حُبِّبَ إِلَىَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلاَثٌ… » الحديث. وَالأَخْبَارُ فِي هَذَا البَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَاعْلَمْ أَنَّ مَقَامَهَا شَرِيفٌ، وَأَنَّهَا أَصْلُ الوُجُودِ:

وَعَنِ الحُبِّ صَدَرْنَا ،‘، وَعَلَى الحُبِّ جَبَلْنَا

فَلِذَا جِئْنَاهُ قَصْـدًا ،‘، وَلِهَذَا   قَدْ   قَبِلْنَا

وَلِهَذَا المَقَامِ أَرْبَعَةُ أَلْقَابِ: 

 مِنْهَا الحُبُّ وَهُوَ خُلُوصُهُ إِلَى القَلْبِ وَصَفَاؤُهُ عَنْ كَدَوْرَاتِ العَوَارِضِ، فَلاَ غَرَضَ لَهُ وَلاَ إِرَادَةَ مَعَ مَحْبُوبِهِ.  

وَاللَّقَبُ الثَّانِي: الوُدُّ، وَلَهُ اِسْمٌ إِلَهِيٌّ، وَهُوَ الوَدُودُ. وَالوُدُّ مِنْ نُعُوتِهِ وَهُوَ الثَّابِتُ فِيهِ، وَبِهِ سُمِّيَ الوُدُّ وُدًّا لِثُبُوتِهِ فِي الأَرْضِ. 

وَاللَّقَبُ الثَّالِثُ: العُشْقُ ,َهُوَ إِفْرَاطُ المَحَبَّةِ، وُكُنِيَ عَنْهُ فِي القُرْآنِ بِشِدَّةِ الحُبِّ فِي قَوْلِهِ:{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، وَهُوَ قَوْلُهُ {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} [يوسف:30] أَيْ صَارَ حُبُّهَا يُوسُف عَلَى قَلْبِهَا كَالشَّغَافِ وَهِيَ الجِلْدَةُ الرَّقِيقَةُ الَّتِي تَحْتَوِي عَلَى القَلْبِ، فَهِيَ ظَرْفٌ لَهُ مُحِيطَةٌ. وَقَدْ وَصَفَ الحَقُّ نَفْسَهُ فِي الخَبَرِ بِشِدَّةِ الحُبِّ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُطْلَقُ عَلَى الحَقِّ اِسْمُ العُشْقِ، وَالعَاشِقُ وَالعُشْقُ اِلْتِفَافُ الحُبِّ عَلَى المُحِبِّ حَتَّى خَالَطَ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ، وَاشْتَمَلَ عَلَيْهِ اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ مُشْتَقٌّ مِنَ العُشْقَةِ.  

وَاللَّقَبُ الرَّابِعُ: الهَوَى وَهُوَ اسْتِفْرَاغُ الإِرَادَةِ فِي المَحْبُوبِ وَالتَّعَلُّقِ بِهِ فِي أَوَّلِ مَا يَحْصِلُ فِي القَلْبِ، وَلَيْسَ لِلَّهِ مِنْهُ اِسْمٌ. وَلِحُصُولِهِ سَبَبُ نَظْرَةٍ أَوْ خَبَرُ أَوْ إِحْسَانُ وَأَسْبَابُهُ كَثِيرَةٌ، وَمَعْنَاهُ فِي الخَبَرِ الإِلَهِيِّ الصَّحِيحِ حُبُّ اللهِ عَبْدَهُ إِذَا أَكْثَرَ نَوَافِلَ الخَيْرَاتِ، وَكَذَلِكَ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ فِيمَا شَرَعَ. وَهَذَا مَنْزِلَتُهُ فِينَا مُسَمَّى الهَوَى. 

قَالَ بَعْضُهُمْ فِي الحُبِّ المُوَلَّدِ عَنِ الخَبَرِ:

يَا قَوْمُ أَذِنِي لِبَعْضِ الحَيِّ عَاشِقَةٌ ،‘، وَالأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ العَيْنِ أَحْيَانًا

وَلَنَا فِي الحُبِّ المُوَلَّدِ عَنِ النَّظَرِ وَالخََبرِ فِي الغَزَلِيَّاتِ:

حُبِّي لِغَيْرِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى النَّظَرِ * إِلاَّ   هَوَاكَ   فَمَبْنَاهُ   عَلَى   الخَبَرِ

اللهُ يَعْلَـمُ أَنِّي مَا عَلِـمْتُ لَهَا * عَلَى الَّذِي قِيلَ لِي أُخْتًا مِنَ البَشَرِ

فَبُغْيَتِي مِنْ عَزْلَتِي   أَنْ أَفُوزَ بِهَا * وَأَنْ  تَجُودَ  عَلَيَّ   بَيْنَيَّ   بِالنَّظَرِ

وَلَنَا أَيْضًا فِي هَذَا المَعْنَى:

  1. حَقِيقَتِي هَــمَّتْ بِهَا ،‘، وَمَا رَآهَا  بَصَــرِي
  2. فَعِنْـدَمَا أَبْصَــرْتُهَا ،‘، صِـرْتُ بِحُكْمِ النَّظَرِ
  3. يَا حَذَرِي  مِنْ حَذَرِي ،‘، لَوْ كَانَ  يُغْنِي  حَذَرِي
  4. وَاللهِ مَا  هَيَّـــمَنِي ،‘، جَـمَالُ ذَاكَ الخَفَـرِ
  5.  إِذَا  رَنَّتْ   أَوْ عَطَفَتْ ،‘، تَسُبِّي عُقُولَ البَشَـرِ
  6. كَأَنَّـمَا  أَنْفَاسُــهَا ،‘، أَعْـرَافُ مِسْكِ عَطَرِ
  7. إِنْ سَفِــرَتْ أَبْرَزَهَا ،‘، نُورُ صَبَاحِ مُسْفِــرِ
  8. يَا قَـمَرًا تَحْتَ دُجَى ،‘، خُذِي   فُؤَادِي   وَذَرِ
  9. وَلَوْ رَآهَا لَغَـــدَا ،‘، قَتِيلُ   ذَاكَ      الحُورِ
  10. فَبِتُّ   مَسْحُورًا   بِهَا ،‘، أَهِيـمُ  حَتَّى السَّحَرِ
  11. حُكْمُ القَضَاءِ وَالقَدَرِ ،‘، وَإِنَّـمَا هَيَّـــمَنِي
  12. يَا حُسْنَـهَا مِنْ ظَبْيَةِ ،‘، تَـرْعَى بِذَاتِ الخِمَرِ
  13. تَفْتَـرُ عَنْ ظُلْمٍ وَعَنْ ،‘، حَبِّ غَـمَامِ نَشَـرِ
  14. كَأَنَّهَا  شَمْسُ ضُحَى ،‘، فِي النُّورِ أَوْ  كَالقَمَرِ
  15. أَوْ سَــدَلَتْ غَيْبُهَا ،‘، ظَلاَمُ ذَاكَ  الشَّعَـرِ
  16. عَيْنِي لِكَيْ أَبْصُرُكُمْ ،‘، إِذْ كَانَ حَظِّي نَظَرِي
  17. فَإِنَّ   مَبْنَى   كَلَفِي ،‘، بِحُبِّـهَا  مِنْ  خَبَرِي

وَلَنَا أَيْضًا فِي هَذَا المَعْنَى:

الأُذُنُ   عَاشِقَةٌ   وَ العَيْنُ   عَاشِقَةٌ ،‘، شَتَّانَ مَا بَيْنَ  عِشْقُ العَيْنِ  وَالخَبَرِ

فَالأُذْنُ تَعْشَقُ وَمَا وَهْمِي  يُصَوِّرُهُ ،‘، وَالعَيْنُ تَعْشَقُ مَحْسُوسًا مِنَ الصُّوَرِ

فَصَاحِبُ العَيْنِ إِنْ جَاءَ الحَبِيبُ لَهُ ،‘، يَوْمًا لِيُبْصِــــرُهُ  يَلْتَـــــــــذُّ بِالنَّظَرِ

وَصَاحِبُ الأُذْنِ إِنْ جَاءَ الحَبِيبُ لَهُ ،‘، فِي صُورَةِ الحِسِّ مَا يَنْفَكُّ عَنْ غَيْرِ

إِلاَّ  هَوَى  زَيْنَبَ   فَإِنَّهُ    عَجَبُ ،‘، قَدِ اسْتَوَى فِيهِ حَظُّ السَّمْعِ وَالبَصَرِ

 .

وَأَلْطَفُ مَا فِي الحُبِّ مَا وَجَدْتُهُ، وَهُوَ أَنْ تَجِدَ عِشْقًا مُفْرِطًا وَهَوَى وَشَوْقًا مُقْلِقًا وَغَرَامًا وَنُحُولاً، وَامْتِنَاعَ نَوْمٍ، وَلَذَّةَ بِطَعَامِ. وَلاَ يَدْرِي فِيمَنْ وَلاَ بِمَنْ وَلاَ يَتَعَيَّنْ لَكَ مَحْبُوبُكَ، وَهَذَا أَلْطَفُ مَا وَجَدْتُهُ ذَوْقًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِالإِنْفَاقِ. أَمَا يَبْدُو لَكَ ـَجَلِّ فِي كَشْفِ، فَيَتَعَلَّقُ َّلِكَ الحُبُّ بِهِ، أَوْ تَرَى شَخْصًا فَيَتَعَلَّقُ ذَلِكَ الوَجْدُ الَّذِي نَجِدُهُ بِهِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ فَتَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَحْبُوبُكَ وَأَنْتَ لاَ تَشْعُرُ، أَوْ يُذْكَرُ شَخْصٌ فَتَجِدَ المَيْلَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ الهَوَى الَّذِي عِنْدَكَ، فَتَعْلَمُ أَنَّهُ صَاحِبُكَ. وَهَذَا مَنْ أَخْفَى دَقَائِقَ اسْتِشْرَافِ النُّفُوسِ عَلَى الأَشْيَاءِ مِنْ خَلْفِ حِجَابِ الغَيْبِ، فَتَجْهَلُ حَالَهَا وَلاَ تَدْرِي بِمَنْ هَامَتْ وَلاَ فِيمَنْ هَامَتْ وَلاَ مَا هَيَّمَهَا.

وَيَجِدُ النَّاسُ ذَلِكَ فِي القَبْضِ وَالبَسْطِ الَّذِي لاَ يَعْرِفُ لَهُ سَبَبٌ.

فَعِنْدَ ذَلِكَ يَأْتِيهِ مَا يُحْزِنُهُ، فَيَعْرِفُ أَنّ ذََلِكَ القَبْضَ كَانَ لِهَذَا الأَمْرِ، أَوْ يَأْتِيهِ مَا يَسُرُّهُ، فَيَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ البَسْطَ كَانَ لِهَذَا الأَمْرِ.

وَذَلِكَ لاِسْتِشْرَافِ النَّفْسِ عَلَى الأُمُورِ مِنْ قَبْلِ تَكْوِينِهَا فِي تَعَلُّقِ الحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ وَهِيَ مُقَدِّمَاتُ التَّكْوِينِ.

وَيُشْبِهُ ذَلِكَ أَخْذُ المِيثَاقِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ بِأَنَّهُ رَبُّنَا، فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى إِنْكَارِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. فَتَجِدُ فِي فِطْرَةِ كُلِّ إِنْسَانٍ اِفْتِقَارًا لِمَوْجُودٍ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ وَهُوَ اللهُ وَلاَ يَشْعُرُ بِهِ.

وَلِهَذَا قَالَ:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ} يَقُولُ لَهُمْ ذَلِكَ الاِفْتِقَارُ الَّذِي تَجِدُونَهُ فِي أَنْفُسِكُمْ مُتَعَلِّقَهُ اللهُ لاَ غَيْرُهُ وَلَكِنْ لاَ تَعْرِفُونَهُ، فَعَرَفْنَا الحَقَّ بِهِ. وَلَمَّا ذُقْنَا هَذَا المَقَامَ قُلْنَا فِيهِ:

 عُلِّقْتُ بِمَنْ أَهْوَى عِشْرِينَ حُجَّةٍ ،‘، وَلَمْ أَدْرِ مَنْ أَهْوَى وَلَمْ أَعْرِفِ الصَّبْرَا

وَلاَ نَظَرَتْ عَيْنِي إِلَى حُسْنِ وَجْهِهَا ،‘، وَلاَ سَمِعَتْ أُذُنَايَ قَط  لَهَا ذِكْرَا

إِلَى َأنْ تَرَاءَى البَرْقُ مِنْ جَانِبِ الحِمَى ،‘، فَنَعِّمْنِي يَوْمًا وَعَذِّبْنِي  دَهْـرًا

 .

وَلَنَا أَيْضًا فِي هَذَا المَعْنَى ذَوْقًا، فَإِنَّا لاَ نُعَبِّرُ إِلاَّ عَمَّا ذُقْنَاهُ:

 عُلِّقْتُ بِمَنْ أَهْوَاهُ مِنْ حَيْثُ لاَ أَدْرِي ،‘، وَلاَ أَدْرِي مَنْ هَذَا الَّذِي قَالَ لاَ أَدْرِي

فَقَدْ حِرْتُ فِي حَالِي وَحَارَتْ خَوَاطِرِي ،‘، وَقَدْ حَارَتْ الحَيْرَاتُ فِيّ وَفِي أَمْرِي

فَبَيَّنَّا أَنَّا مِنْ بَعْــــدِ عِشْرِينَ حُجَّةٍ ،‘، أُتَرْجِمُ مَنْ هَذَا الَّذِي ضَمَّهُ صَدْرِي

وَلَمْ أَدْرِ مَنْ أَهْوَى وَلاَ َأعْرِفُ إِسْمَهُ ،‘، وَلاَ أَدْرِ مَنْ هَذَا الَّذِي ضَمَّهُ  صدْرِي

إِلَى أَنْ بَــدَا لِي وَجْهَهَا مِنْ نِقَابِهَا ،‘، سَحَابُ اللَّيْلِ أَسْفَرُ مِنْ   بَـــدْرِ

فَقُلْتُ لَهُـــمْ مَنْ هَذِهِ قِيلَ  هَذِهِ ،‘، بُنِيَّةُ عَيْنِ القَلْبِ بِنْتُ أَخِي الصَّــدِّ

فَكَبَّــــرْتُ إِجْلاَلاً لَهَا وَلِأَصْلِهَا ،‘، فَلَيْلَى بِهَا أَرْبَى عَلَى لَيْلَةِ القَــدْرِ

 .

وَلَنَا فِي هَذَا المَعْنَى ذَوْقًا فِي أَوَّلِ دُخُولِي إِلَى الشَّامِ وَجَدْتُ مَيْلاً مَجْهُولاً مُدَّةً طَوِيلَةً فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ إِلَهِيَّةٍ مُتَخَيِّلَةٍ فِي صُورَةٍ جَسَدِيَّةٍ، فَقُلْنَا نُخَاطِبُهَا فِي ذَلِكَ بِالحَالِ وَلِسَانِهِ:

أَقُولُ وَعِنْدِي مِنْ هَوَاكَ الَّذِي عِنْــدِي ،‘، مَقَالَةَ مَنْ قَالَ الحَبِيبُ لَهُ  قُلْ لِي

وَلَمَّا دَخَلْتُ الشَّامَ خُولِطَتْ  فِي  عَقْلِي ،‘، فَلَمْ َأرَ قَبْلِي فِي الهَوَى عَاشِقًا مِثْلِي

عَشِقْتُ وَمَا أَدْرِي الَّذِي قَدْ عَشِقْتُـهُ ،‘، أَخَالِقِي  المَحْبُوبِ  أَمْ هُوَ مِنْ شَكْلِي

وَلاَ سَمِعَتْ أُذْنَايَ قَطْ بِذِكْـــرِهِ ،‘، فَهَلْ  قَالَ  هَذَا   عَاشِقُ غَيْرِنَا   قَلْبِي

فَجُبْتُ بِلاَدَ اللهِ شَـرْقًا وَمَغْــرِبًا ،‘، لَعَلِّي  أَرَى  شَخْصًا   يُوَافِقُنِي    عَلِي

فَلَمْ    أَرَ   إِلاَّ   ذَا   حَبِيبٍ   مُعِينٍ ،‘، يُلاَزِمُهُ     طَبْعًا     مُلاَزَمَةَ  الظِّلِّ

فَقُلْتُ إِلَــــهِي إِنَّ  قَلْبِي مُهَيَّمٌ ،‘، وَلَمْ َأدْرِ فَانْظُـرْ فِي مَقَامِي وَفِي ذُلِّي

فَنَادَى مُنَادِي الحُبِّ مِنْ بَيْنِ أَضْلُعِي ،‘، لَقَدْ غُصْتَ يَا مِسْكِينٌ فِي أَبْحُرِ الجَهْلِ

أَلاَ فَاسْتَمِعْ  قَوْلِي وَخُذْ سِرَّ حِكْمَتِي ،‘، فَإِنِّي مِنْ أَهْلِ التَّعَالِيـــمِ وَالفَضْلِ

بِسَبْعٍ وَعَشْرٍ ثُمَّ خَــمْسِينَ بَعْدَهَا ،‘، إِذَا أَنْتَ  حَصَّلْتَ  اِثْنتَيْنِ عَلَى وَصْلِي

يَقُومُ لَكُمْ شَكْلٌ بَـدِيعٌ مُـــرَبَّعٌ ،‘، تَمَامًا عَلَى الوَصْلِ الَّذِي فِيهِ وَالفَصْلِ

كَمِثْلِ اسْمِهِ اللـــهُ بَيَانًا مُحَقَّقًا ،‘، فَكَانَ اِسْمُ مَحْبُوبِي عَلَى صُورَةِ الأَصْلِ

فَذَاكَ اِسْمُ مَنْ تَهْوَاهُ إِنْ كُنْتَ عَالِمًا ،‘، وَهَذَا مِنَ العِلْـمِ المُضَافِ إِلَى البُخْلِ

فَإِنْ كُنْتَ ذَا فَـهْمٍ فَلاَ تَبْتَغِي سِوَى ،‘، مُثَلَّثَةُ التَّــــرْبِيعِ جَامِعَةُ الشَّمْلِ

فَثُلَيْثُــــهَا بَيْتٌ وَبَيْتُ مَصْحَفِ ،‘، لَهَا حُسْنُ إِدْلاَلِ يَــدُلُّ عَلَى دُلِّي

فَبَيْتُ إِلَيَّ لِعَيْنِ عَيْنِ وَثَمَّ بَيْتٌ لِمَاجِدِ ،‘، هُمَا أَهْلُ بَيْتٍ لِلسَّــمَاحَةِ وَالبَذْلِ

وَأَوَّلُهُ حَـــــرْفٌ نَزِيهٌ مُسَبَّعٌ ،‘، مِنَ السِّتَّةِ اَلأعْلاَمِ مِنْ أَحْرُفِ الفَصْلِ

وَهَذَا أَلْطَفُ مَا يَكُونُ مِنَ المَحَبَّةِ، وَدُونَهُ حُبُّ الحُبِّ وَهُوَ الشُّغْلُ بِالحُبِّ عَنْ مُتَعَلِّقِهِ.

جَاءَتْ لَيْلَى إِلَى قَيْسِ وَهُوَ يَصِيحُ: لَيْلَى لَيْلَى ، وَيَأْخُذُ الجَلِيدُ وَيُلْقِيهِ عَلَى فُؤَادِهِ، فَتُذِيبُهُ حَرَارَةُ الفُؤَادِ. فَسَلَّمَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي تِلْكَ الحَالِ،

فَقَالَتْ لَهُ: أَنَا مَطْلُوبُكَ، أَنَا بُغْيَتُكَ، أَنَا مَحْبُوبُكَ، أَنَا قُرَّةُ عَيْنِكَ، أَنَا لَيْلَى.

فَالْتَفَتَ إِلَيْهَا وَقَالَ : إِلَيْكَ عَنِّي، فَإِنَّ حُبَّك شَغَلَنِي عَنْكَ.

هَذَا أَلْطَفُ مَا يَكُونُ، وَأَرَقُّ فِي المَحَبَّةِ، وَلَكِنْ هُوَ دُونَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي اللُّطْفِ.

وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو العَبَّاسِ العُرَيْبِيّ –رَحِمَهُ اللهُ- يَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَهُ شَهْوَةَ الحُبِّ لاَ الحُبَّ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَدِّهِ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا حَدَّهُ بِالحَدِّ الذَّاتِيّ، بَلْ لاَ يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ. فَمَا حَدَّهُ مِنْ حَدِّهِ إِلاَّ بِنَتَائِجِهِ وَآثَارِهِ وَلَوَازِمِهِ، وَلاَ سِيَمَا وَقَدِ اتَّصَفَ بِهِ الجَنَابُ العَزِيزُ وَهُوَ اللهُ.

وَأَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِيهِ، مَا حَدَّثَنَا بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي العَبَّاسِ ابْنِ العَرِيفِ الصَّنْهَاجِي، قَالُوا: سَمِعْنَاهُ يَقُولُ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ المَحَبَّةِ.

فَقَالَ: الغَيْرَةُ مِنْ صِفَاتِ المَحَبَّةِ، وَالغَيْرَةُ تَأْبَى إِلاَّ السِّتْرَ فَلاَ تُحَدُّ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمُورَ المَعْلُومَاتِ عَلَى قِسْمَيْنِ:مِنْهَا مَا يُحَدُّ، وَمِنْهَا مَا لاَ يُحَدُّ.

وَالمَحَبَّةُ عِنْدَ العُلَمَاءِ بِهَا المُتَكَلِّمِينَ، فِيهَا مِنَ الأُمُورِ الَّتِي لاَ تُحَدُّ. فَيَعْرِفُهَا مَنْ قَامَتْ بِهِ وَمَنْ كَانَتْ صِفَتُهُ وَلاَ يَعْرِفُ مَا هِيَ وَلاَ يَنْكُرُ وُجُودَهَا.

وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ حُبٍّ لاَ يَحْكُمُ عَلَى صَاحِبِهِ بِحَيْثُ

أَنْ يَصُمُّهُ عَنْ كُلِّ مَسْمُوعٍ سِوَى مَا يُسْمَعُ مِنْ كَلاَمِ مَحْبُوبِهِ،

وَيَعْمِيهِ عَنْ كُلِّ مَنْظُورٍ سِوَى وَجْهُ مَحْبُوبِهِ،

وَيَخْرِسُهُ عَنْ كُلِّ كَلاَمٍ إِلاَّ عَنْ ذِكْرِ مَحْبُوبِهِ وَذِكْرِ مَنْ يُحِبُّ مَحْبُوبَهُ، وَيَخْتِمُ عَلَى قَلْبِهِ فَلاَ يَذْخُلُ فِيهِ سِوَى حُبِّ مَحْبُوبِهِ،

وَيَرْمِي قَفْلَهُ عَلَى خِزَانَةِ خَيَالِهِ، فَلاَ يَتَخَيَّلُ سِوَى صُورَةَ مَحْبُوبِهِ، إِمَّا عَنْ رُؤْيَةِ تَقَدَّمَتْهُ، وَإِمَّا عَنْ وَصْفٍ يُنْشِئُ مِنْهُ الخَيَالُ صُورَةً، فَيَكُونُ كَمَا قِيلَ:

خَيَالُكَ فِي عَيْنِي وَذِكْرُكَ فِي فَمِي ،‘، وَمَثْوَاكَ فِي قَلْبِي فَأَيْنَ تَغِيبُ؟

فِيهِ يَسْمَعُ، وَلَهُ يَسْمَعُ، وَبِهِ يَبْصِرُ، وَلَهُ يَبْصِرُ، وَبِهِ يَتَكَلَّمُ، وَلَهُ يَتَكَلَّمُ.

وَلَقَدْ بَلَغَ بِي قُوَّةَ الخَيَالِ، أَنْ كَانَ حُبِّي يُجَسِّدُ لِي مَحْبُوبِي مِنْ خَارِجٍ لِعَيْنِي ؛ كَمَا كَانَ يَتَجَسَّدُ جِبْرِيلُ لِرَسُولِ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلاَ َأقْدِرُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَيُخَاطِبُنِي وَأَصْغِي إِلَيْهِ وَأَفْهَمُ عَنْهُ. وَلَقَدْ تَرَكَنِي أَيَّامًا لاَ أَسِيغُ طَعَامًا, كُلَّمَا قُدِّمَتْ فِي المَائِدَةُ، يَقِفُ عَلَى حَرْفِهَا وَيَنْظُرُ إِلَيَّ وَيَقُولُ لِي بِلِسَانِ أَسْمَعُهُ بِأُذُنِي: تَأْكُلُ وَأَنْتَ تُشَاهِدُنِي، فََأمْتَنِعُ مِنَ الطَّعَامِ وَلاَ أَجِدُ جُوعًا وَامْتَلِئُ مِنْهُ حَتَّى سَمِنْتُ وَعَبَأْتُ مِنْ نَظَرِي إِلَيْهِ، فَقَامَ لِي مَقَامَ الغَذَاءِ. وَكَانَ َأصْحَابِي وَأَهْلُ بَيْتِي يَتَعَجَّبُونَ مِنْ سَمْنِي مَعَ عَدَمِ الغَذَاءِ لِأَنِّي كُنْتُ أَبْقَى الأَيَّامَ الكَثِيرَةَ لاَ أَذُوقُ ذَوْقًا، وَلاَ أَجِدُ جُوعًا وَلاَ عَطَشًا، لأَكِنَّهُ كانَ لاَ يَبْرَحُ نَصَبَ عَيْنِي فِي قِيَامِي وَقُعُودِي وَحَرَكَتِي وَسُكُونِي.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ يَسْتَغْرِقُ الحُبَّ الُمحِبُ كُلَّهُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مَحْبُوبَهُ الحَقُّ تَعَالَى أَوْ أَحَدًا مِنْ جِنْسِهِ مِنْ جَارِيَّةٍ أَوْ غُلاَمٍ، وَأَمَّا مَا عَدَى مَنْ ذَكَرْتُهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَغْرِقُهُ حُبُّهُ إِيَّاهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يُقَابِلَ بِذَاتِهِ كُلِّهَا إِلاَّ مَنْ هُوَ عَلَى صُورَتِهِ إِذَا أَحَبَّهُ. فَمَا فِيهِ جُزْءٌ إِلاَّ وَفِيهِ مَا يُمَاثِلُهُ. فَلاَ يَبْقَى فِيهِ فَضْلَةً يَصْحُو بِهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَيَهِيمُ ظَاهِرُهُ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنُهُ فِي بَاطِنِهِ. أَلاَ تَرَى الحَقَّ قَدْ تَسَمَّى بِالظَّاهِرِ وَالبَاطِنِ ؟ فَتَسْتَغْرِقُ الإِنْسَانَ المَحَبَّةُ فِي الحَقِّ وَفِي َأشْكَالِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِيمَا سِوَى الجِنْسِ مِنَ العَالَمِ. فَإِنَّهُ إِذَا أَحَبَّ صُورَةً مِنَ العَالَمِ إِنَّمَا يَسْتَقْبِلُهُ بِالجُزْءِ المُنَاسِبِ وَيَبْقَى مَا بَقِيَ مِنْ ذَاتِهِ صَاحِيَّةً فِي شُغْلِهَا. وَأَمَّا اسْتِغْرَاقُ حُبَّهُ إِذَا أَحَبَّ اللهَ، فَلِكَوْنِهِ عَلَى صُورَتِهِ كَمَا وَرَدَ فِي الخََبرِ. فَيَسْتَقْبِلُ الحَضْرَةَ الإِلَهِيَّةَ بِذَاتِهِ كُلِّهَا. وَلِهَذَا تَظْهَرُ فِيهِ جَمِيعُ الأَسْمَاءِ الإِلَهِيَّةِ، وَيَتَخَلَّقُ بِهَا مَنْ لَيْسَتْ عِنْدَهُ صِفَةُ الحُبِّ وَيُكَوِّنُهَا مِنْ عِنْدِهِ صِفَةُ الحُبِّ. فَلِهَذَا يَسْتَغْرِقُ الإِنْسَانَ الحُبُّ. وَإِذَا تَعَلَّقَ بِاللهِ وَكَانَ اللهُ مَحْبُوبَهُ، فَيَفْنَى فِي حُبِّهِ فِي الحَقِّ أَشَدَّ مِنْ فَنَائِهِ فِي حُبِّ أَشْكَالِهِ. فَإِنَّهُ فِي حُبِّ أَشْكَالِهِ فَاقِدٌ فِي غَيْبَتِهِ ظَاهِرَ المَحْبُوبِ.

وَإِذَا كَانَ الحَقُّ هُوَ المَحْبُوبُ، فَهُوَ دَائِمُ المُشَاهَدَةِ. وَمُشَاهَدَةُ المَحْبُوبِ كَالغِذَاءِ لِلْجِسْمِ بِهِ يَنْمِي وَيَزْدَادُ. فَكُلَّمَا زَادَ مُشَاهَدَةً، زَادَ حُبًّا. وَلِهَذَا الشَّوْقُ يَسْكُنُ بِاللِّقَا والاِشْتِيَاقُ يَهِيجُ بِاللِّقَاءِ. وَهُوَ الَّذِي يَجِدُهُ العُشَّاقُ عِنْدَ الاِجْتِمَاعِ بِالمَحْبُوبِ، لاَ يَشْبَعُ مِنْ مُشَاهَدَتِهِ وَلاَ يَأْخُذُ نَهْمَتَهُ مِنَّا لِأَنَّهُ كُلَّمَا نَظَرَ إِلَيْهِ زَادَ وَجْدًا بِهِ وَشَوْقًا مَعَ حُضُورِهِ مَعَهُ كَمَا قِيلَ:

وَمِنْ عَجَبٍ أَنِّي أَحِنُّ إِلَيْـهِـمْ ،‘، وََأسْأَلُ شَوْقًا عَنْهُمْ وَهُــمْ مَعِي

وَتَبْكِيهِمْ عَيْنِي وَهُمْ فِي سَوَادِهَا ،‘، وَتَشْتَاقُهُمْ نَفْسِي وَهُمْ بَيْنَ أَضْلُعِي

وَكُلُّ حُبٍّ يَبْقَى فِي المُحِبِّ عَقْلاً يُعْقَلُ بِهِ عَنْ غَيْرِ مَحْبُوبِهِ أَوْ تَعَقُّلاً فَلَيْسَ بِحُبٍّ خَالِصٍ وَإِنَّمَا هُوَ حَدِيثُ نَفْسِ، قَالَ بَعْضُهُمْ:

وَلاَ خَيْرَ فِي حُبٍّ يُدَبَّرُ بِالعَقْلِ.

وَحِكَايَاتُ المُحِبِّينَ فِي هَذَا البَابِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَلَنَا فِي ازْدِيَادِ المَحَبَّةِ مَعَ المُشَاهَدَةِ وَالشَّوْقِ:

أَغِيبُ فَيَفْنَى الشَّوْقُ نَفْسِي فَأَلْتَقِي ،‘، فَلاَ أَشْتَفِي فَالشَّوْقُ غَيْبًا وَمُحْضِرًا

وَيَحْــدِثُ لِي لُقْيَاهُ مَا لَمْ أَظُنُّهُ ،‘، مَكَانُ الشِّفَا دَاءٌ مِنَ الوَجْدِ  آخِرًا

لِأَنِّي أَرَى شَخْصًا يَزِيـدُ  جَمَالُهُ ،‘، إِذَا مَا الْتَقَيْنَاهُ نَخْوَةً وَتَكَبُّـــرَا

فَلاَ بُـدَّ مِنْ وُجْدٍ يَكُونُ  مُقَارِنًا ،‘، لِمَا زَادَ مِنْ حُسْنِ نِظَامًا مُحَـرَّرَا

أُشِيرُ إِلَى تَجَلِّيهِ سُبْحانَهُ فِي صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الآخِرَةِ لِعِبَادِهِ، وَفِي الدُّنْيَا لِقُلُوبِ عِبَادِهِ، كَمَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمِ مِنْ تَحَوُّلِهِ سُبْ؛َانَهُ فِي الصُّوَرِ، كَمَا يَنْبَغِي لِذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ وَلاَ تَكْيِيفٍ. فَوَاللهِ لَوْلاَ الشَّرِيعَةُ الَّتِي جَاءَتْ بِالأَخْبَارِ الإِلَهِيَّ مَا عَرَفَ اللهُ أَحَدٌ. وَلَوْ بَقِينَا مَعَ الأَدِلَّةِ العَقْلِيَّةِ الَّتِي دَلَّتْ فِي زَعْمِ العُقَلاَءِ عَلَى العِلْمِ بِذَاتِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَذَا وَلَيْسَ كَذَا مَا أَحَبَّهُ مَخْلُوقٌ. فَلَمَّا جَاءَ الخَبَرُ الإِلَهِيُّ بِأَلْسِنَةِ الشَّرَائِعِ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ كَذَا وَأَنَّهُ كَذَا مِنْ أُمُورِ تُنَاقِضُ ظَوَاهِرُهَا الأَدِلَّةَ العَقْلِيَّة أَحْبَبْنَاهُ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ أَوْقَعَ النِّسَبَ وَثَبَتَ السَّبَبُ وَالنِّسَبُ المُوجِبَاتُ لِلْمَحَبَّةِ قَالَ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى 11]، قَثَبَتَ الأَسْبَابُ المُوجِبَةُ لِلْحُبِّ الَّتِي نَفَاهَا العَقْلُ بِدَلِيلِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ  » فَخَلَقْتُ الخَلْقَ، فَتَعَرَّفْتُ إِلَيْهِمْ، فَعَرَفُونِي ». فَمَا يُعْرَفُ اللهُ إِلاَّ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ حُبِّهِ إِيَّانَا وَرَحْمَتِهِ بِنَا. وَرَأْفَتُهُ وَشَفَقَتُهُ وَتَحَبُّبُهُ وَنُزُولُهُ فِي التَّحْدِيدِ لِنُمَثِّلُهُ تَعَالَى وَنَجْعَلُهُ نَصْبَ أَعْيُنِنَا فِي قُلُوبِنَا وَفِي قِبْلَتِنَا وَفِي خَيَالِنَا حَتَّى كَأَنَّا نَرَاهُ لاَ بَلْ نَرَاهُ فِينَا لِأَنَّا عَرَفْنَاهُ بِتَعْرِيفِهِ لاَ بِنَظَرِنَا، وَمِنَّا مَنْ يَرَاهُ وَيَجْهَلُهُ، فَكَمَا أَنَّهُ لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى غَيْرِهِ كَذَلِكَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ فِي المَوْجُودَاتِ غَيْرَهُ. فَهُوَ الظَّاهِرُ فِي كُلِّ مَحْبُوبٍ لِعَيْنِ كُلِّ مُحِبِّ، وَمَا فِي الوُجُودِ إِلاَّ مُحِبٌّ.

فَالعَالَمُ كُلُّهُ مُحِبٌّ وَمَحْبُوبٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَيْهِ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُعْبَدُ سِوَاهُ. فَإِنَّهُ مَا عَبَدَ مَنْ عَبَدَ إِلاَّ بِتَخَيُّلِ الأُلُوهِيَّةِ فِيهِ وَلَوْلاَهَا مَا عُبِدَ، يَقُولُ تَعَالَى: {وَقَضَىا رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإِسراء:23]. وَكَذَلِكَ الحُبُّ، مَا أَحَبَّ أَحَدٌ غَيْرَ خَالِقِهِ.

وَلَكِنْ احْتَجَبَ عَنْهُ تَعَالَى بِحُبِّ زَيْنَبَ وَسُعَادَ وَهِنْدَ وَلَيْلَى وَالدُّنْيَا وَالدِّرْهَم وَالجَاهُ وَكُلُّ مَحْبُوبٍ فِي العَالَمِ. فَأَفْنَتِ الشُّعَرَاءِ كَلاَمَهَا فِي المَوْجُودَاتِ وَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ، وَالعَارِفُونَ لَمْ يَسْمَعُوا شِعْرًا وَلاَ لُغْزًا وَلاَ مَدِيحًا وَلاَ تَغَزُّلاً إِلاَّ فِيهِ مِنْ خَلْفِ حِجَابِ الصُّوَرِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ الغَيْرَةُ الإِلَهِيَّةُ أَنْ يُحِبَّ سِوَاهُ. فَإِنَّ الحُبَّ سَبَبُهُ الجَمَالُ وَهُوَ لَهُ لِأَنَّ الجَمَالَ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ، وَاللهُ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ فَيُحِبُّ نَفْسَهُ.

وَسَبَبُهُ الآخَرُ الإِحْسَانُ وَمَا ثَمَّ إِحْسَانُ إِلاَّ مِنَ اللهِ، وَلاَ مُحْسِنُ إِلاَّ اللهُ.

فَإِنْ أَحْبَبْتَ لِلإِحْسَانِ فَمَا أَحْبَبْتُ إِلاَّ اللهَ فَإِنَّهُ المُحْسِنُ. وَإِنْ أَحْبَبْتَ لِلْجَمَالِ فَمَا أَحْبَبْتُ إِلاَّ اللهَ تَعَالَى فَإِنَّهُ الجَمِيلُ. فَعَلَى كُلِّ وَجْهِ مَا مُتَعَلَّقُ المَحَبَّة إِلاَّ اللهَ.

وَلَمَّا عَلِمَ الحَقُّ نَفْسَهُ فَعَلِمَ العَالِمُ مِنْ نَفْسِهِ فََأخْرَجَهُ عَلَى صُورَتِهِ فَكَانَ لَهُ مِرْآةُ يَرَى صُورَتَهُ فِيهِ فَمَا أَحَبَّ سِوَى نَفْسَهُ، فَقَوْلُهُ : {يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران:31] عَلَى الحَقِيقَةِ نَفْسُهُ أَحَبَّ إِذْ الاِتِّبَاعُ سَبَبُ الحُبِّ، وَاتِّبَاعُهُ صُورَتُهُ فِي مِرْآةِ العَالَمِ سَبَبُ الحُبِّ لِأَنَّهُ لاَ يَرَى سِوَى نَفْسَهُ، وَسَبَبُ الحُبِّ النَّوَافِلُ وَهِيَ الزِّيَادَاتِ، وَصُورَةُ العَالَمِ زِيَادَةُ فِي الوُجُودِ فَأَحَبَّ العَالَمَ نَافِلَة، فَكَانَ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ حَتَّى لاَ يُحِبُّ سِوَى نَفْسَهُ.

وَمَا أَغْمَضُهَا مِنْ مَسَْألَةٍ، وَمَا أَسْرَعُ تَفَلُّتَهَا مِنَ الوَهْمِ. فَإِنَّهُ اتَّفَقَ فِي الوُجُودِ أَمْرٌ غَرِيبٌ.

وَذَلِكَ أَنَّ ثَمَّ أُمُورًا يَتَحَقَّقُ بِهَا العَقْلُ وَيَثْبُتُ عَلَيْهَا وَلاَ يَتَزَلْزَلُ وَتَتَفَلَتُ مِنَ الوَهْمِ وَلاَ يَقْدِرُ يَبْقَى عَلَى ضَبْطِهَا مِثْلَ هَذِهِ المَسْأَلَةُ يَثْبُتُهَا العَقْلُ وَلاَ يَقْدِرُ يَزُولُ عَنْهَا. وَتَتَفَلَّتُ مِنَ الوَهْمِ وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى ضَبْطِهَا.

وَثَمَّ أُمُورٌ أُخَرٌ بِالعَكْسِ تَتَفَلَّتُ مِنَ العَقْلِ وَتَثْبُتُ فِي الوَهْمِ وَيُحْكَمُ عَلَيْهَا وَيُؤَثِّرُ فِيهَا، كَمَنْ يُعْطِيهِ العَقْلُ بِدَلِيلِهِ أَنَّ رِزْقَهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَأْتِيهِ سَعَى إِلَيْهِ أَوْ لَمْ يَسْعَ، فَيَتَفَلَّتْ هَذَا العِلْمُ عَنِ العَقْلِ، وَيَحُكْمُ عَلَيْهِ الوَهْمُ  بِسُلْطَانِهِ أَنَّكَ إِنْ لَمْ تَسْعَ فِي طَلَبِهِ تَمُوتُ، فَيَغْلُبُ عَلَيْهِ، فَيَقُومُ يَتَعَمَّلُ فِي تَحْصِيلِهِ. فَحَقُّهُ مِنْ جِهَةِ عَقْلِهِ زَائِلٌ، وَبَاطِلُهُ مِنْ جِهَةِ وَهْمِهِ ثَابِتٌ لاَ يَتَزَلْزَلْ. وَكَمَنْ يَرَى حَيَّةً أَوْ أَسَدًا عَلَى صُورَةٍ لاَ يَتَمَكَّنْ فِيمَا يُغَطِّيهِ العَقْلُ أَنْ يَصِلَ ضَرَرُهُ إِلَيْهِ، فَيَغِيبُ عَنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ وَيَتَوَهَّمُ ضَرَرَهُ فَيَنْفُرُ مِنْهُ وَيَتَغَيَّرُ وَجْهُهُ وَبَاطِنُهُ بِحُكْمِ الوَهْمِ وَسُلْطَانِهِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ.

فَلِلْوَهْمِ سُلْطَانٌ فِي مَوَاطِنٍ، وَلِلْعَقْلِ سُلْطَانٌ فِي مَوَاطِنٍ.

فَلْنَذْكُرْ فِي هَذَا البَابِ، إِنْ شَاءَ اللهُ، مِنْ لَوَازِمِ الحُبِّ وَمَقَامَاتِهِ مَا تَيَسَّرَ فَنَقُولُ: إِنَّ الحُبَّ تَعَلُّقٌ خَاصٌّ مِنْ تَعَلُّقَاتِ الإِرَادَةِ. فَلاَ تَتَعَلَّقُ المَحَبَّةُ إِلاَّ بِمَعْدُومٍ غَيْرَ مَوْجُودٍ ؛ فِي حِينِ التَّعَلُّقُ يُرِيدُ وُجُودَ ذَلِكَ المَحْبُوبِ أَوْ وُقُوعَهُ.

وَإِنَّمَا قُلْتُ « أَوْ وُقُوعَهُ » لِأَنَّهَا قَدْ تَتَعَلَّقُ بِإِعْدَامِ المَوْجُودِ، وَإِعْدَامُ المَوْجُودِ فِي حَالِ كَوْنِ المَوْجُودِ مَوْجُودٌ، أَلَيْسَ بِوَاقِعٍ.

فَإِذَا عَدِمَ المَوْجُودُ الَّذِي تَعَلّقََتْ بِهِ المَحَبَّةُ، فَقَدْ وَقَعَ. وَلاَ يُقَالُ وَجْدُ الإِعْدَامِ، فَإِنَّهُ جَعْلٌ مِنْ قَائِلِهِ.

وَقَوْلُنَا يُرِيدُ وُجُودَ ذَلِكَ المَحْبُوبِ، وَأَنَّ المَحْبُوبَ عَلَى الحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ مَعْدُومٌ. فَذَلِكَ أَنَّ المَحْبُوبَ لِلْمُحِبِّ هُوَ إِرَادَةٌ أَوْجَبَتْ الاِتِّصَالَ بِهَذَا الشَّخْصِ المُعَيَّنِ كَائِنًا مَنْ كَانَ.

إِنْ كَانَ مِمَّنْ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعَانَقَ، فَيُحِبُّ عِنَاقَهُ ؛ أَوْ يُنْكَحُ، فَيُحِبُّ نِكَاحَهُ ؛ أَوْ يُجَالَسُ، فَيُحِبُّ مُجَالَسَتَهُ.

فَمَا تَعَلُّقُ حُبِّهِ إِلاَّ بِمَعْدُومِ فِي الوَقْتِ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ.

فَيَتَخَيَّلُ أَنَّ حُبَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالشَّخْصِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَهََّا هُوَ الذِي يُهِيجُهُ لِلِقَائِهِ وَرُؤْيَتِهِ.

فَلَوْ كَانَ يُحِبُّ شَخْصَهُ أَوْ وُجُودَهُ فِي عَيْنِهِ، فَهُوَ فِي شَخْصِيَّتِهِ أَوْ فِي وُجُودِهِ، فَلاَ فَائِدَةَ لِتَعَلُّقِ الحُبِّ بِهِ.

فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّا كُنَّا نُحِبُّ مُجَالَسَةَ شَخْصٍ أَوْ تَقْبِيلِهِ أَوْ عِنَاقِهِ أَوْ تَأْنِيسِهِ أَوْ حَدِيثِهِ، ثُمَّ نَرَى تَحَصُّلَ ذَلِكَ، وَالحُبُّ لاَ يَزُولُ مَعَ وُجُودِ العِنَاقِ وَالوِصَالِ، فَإِذَنْ مُتَعَلَّقُ الحُبِّ قَدْ لاَ يَكُونُ مَعْدُومًا.

قُلْنَا: أَنْتَ غَالِط, إِذَا عَانَقْتَ الشَّخْصَ الَّذِي تَعَلَّقَتْ المَحَبَّةُ بِعِنَاقِهِ أَوْ مُجَالَسَتِهِ أَوْ مُؤَانَسَتِهِ، فَإِنَّ مُتَعَلِّقَ حُبِّكَ فِي تِلْكَ حَالٌ، مَا هُوَ بِالحَاصِلِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِدَوَامِ الحَاصِلِ وَاسْتِمْرَارِهِ.

وَالدَّوَامُ وَالاِسْتِمْرَارُ مَعْدُومٌ مَا دَخَلَ فِي الوُجُودِ وَلاَ تَتَنَاهَى مُدَّتُهُ.

فَإِذَا مَا تَعَلَّقَ الحُبُّ فِي حَالِ الوَصْلَةِ إِلاَّ بِمَعْدُومٍ وَهُوَ دَوَامُهَا ؛

وَمَا أَحْسَنَ مَا جَاءَ فِي القُرْءَانِ قَوْلُُهُ: (5)المائدة54{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} بِضَمِيرِ الغَائِبِ وَالفِعْلِ المُسْتَقْبَلِ. فَمَا أَضَافَ مُتَعَلِّقَ الحُبِّ إِلاَّ لِغَائِبٍ وَمَعْدُومٍ، وَكُلُّ غَائِبٍ فَهُوَ مَعْدُومٌ إِضَافِيٌّ.

فَمِنْ أَوْصَافِ المَحَبَّةِ أَنْ يَجْمَعَ المُحِبُّ فِي حُبِّهِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ لِيَصِحَّ كَوْنُهُ عَلَى الصُّورَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الاِخْتِيَارِ. وَهَذَا هُوَ الفَرْقُ بَيْنَ الحُبّ الطَّبِيعِيّ وَالرُّوحَانِي، وَالإِنْسَانُ يَجْمَعُهُمَا وَحْدَهُ، وَالبَهَائِمُ تُحِبُّ وَلاَ تَجْمَعُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، بِخِلاَفِ الإِنْسَانِ.

وَإِنَّمَا جَمَعَ الإِنْسَانُ فِي حُبِّهِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ لِأَنَّهُ عَلَى صُورَتِهِ، وَقَدْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالضِّدَّيْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ : (57)الحديد3 {هُوَ الأَوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّـهِرُ وَالبَاطِنُ}.

وَصُورَةُ جَمْعِ الحُبِّ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، أَنَّ الحُبَّ مِنْ صِفَاتِهِ اللاَّزِمَةِ لَهُ حُبُّ الاِتِّصَالِ بِالمَحْبُوبِ.

وَمِنْ صِفَاتِهِ اللاَّزِمَةِ حُبُّ مَا يُحِبُّهُ المَحْبُوبُ، فَيُحِبُّ المَحْبُوبُ الهِجْرَ.

فَإِنْ أَحَبَّ المُحِبُّ الهِجْرَ فَقَدْ فَعَلَ مَا لاَ تَقْتَضِيهِ المَحَبَّةُ.

فَإِنَّ المُحِبَّ يُحِبُّ مَا يُحِبُّ مَحْبُوبُهُ وَلَمْ يَفْعَلْ.

فَالمُحِبُّ مَحْجُوجٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَغَايَةُ الجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنْ يُحِبَّ حُبَّ المَحْبُوبِ لِلْهِجْرِ لاَ الهِجْرُ، وَيُحِبُّ الاِتِّصَالَ.

وَلاَ تَخْرُجْ هَذِهِ المَسْأَلَةُ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ هَذَا كَالرَّاضِي بِالقَضَاءِ، فَيَصِحُّ لَهُ اسْمُ الرِّضَا بِالقَضَاءِ مَعَ كَوْنِهِ لاَ يَرْضَى بِالمَقْضِي، إِذَا كَانَ المَقْضِي بِهِ كُفْرًا، كَذَا وَرَدَ الشَّرْعُ.

وَهَكَذَا فِي مَسْأَلَةِ الحُبِّ، يُحِبُّ المُحِبُّ الاِتِّصَالَ بِالمَحْبُوبِ، وَيُحِبُّ حُبُّ المَحْبُوبِ الهِجْرَ، لاَ يُحِبُّ الهِجْرَ لِأَنَّ الهِجْرَ مَا هُوَ عَيْنُ حُبِّ المَحْبُوبِ الهِجْرُ. كَمَا أَنَّ القَضَاءَ مَا هُوَ عَيْنُ المَقْضِي، فَإِنَّ القَضَاءَ حُكْمُ اللهِ بِالمَقْضِي، لاَ عَيْنُ المَقْضِي، فَيَرْضَى بِحُكْمِ اللهِ.

وَحُبُّ الحَيَوَانِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ حُبٌّ طَبِيعِيٌّ لاَ رُوحَانِي.

فَيَطْلُبُ الاِتِّصَالَ بِمَنْ يُحِبُّ خَاصَّةً وَلاَ يَعْلَمُ أَنَّ مَحْبُوبَهُ لَهُ حُبٌّ فِي كَذَا، لاَ عِلْمَ لَهُ بِذَلِكَ.

فَلِهَذَا قَسَّمْنَا الحُبَّ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ لِلإِنْسَانِ إِلَى نَوْعَيْنِ:

–        فِيهِ حُبٌّ طَبِيعِيٌّ، وَبِهِ يُشَارِكُ البَهَائِمَ وَالحَيَوَانَاتِ.

–        وَحُبٌّ رُوحَانِيٌّ، وَبِهِ يَنْفَصِلُ وَيَتَمَيَّزُ عَنْ حُبِّ الحَيَوَانِ.

وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَصْلٌ.

فَاعْلَمْ أَنَّ الحُبَّ مِنْهُ إِلَهِيٌّ وَرُوحَانِيٌّ وَطَبِيعِيٌّ.

وَمَا ثَمَّ حُبٌّ غَيْرَ هَذَا.

فَالحُبُّ الإِلَهِيُّ، هُوَ حُبُّ اللهِ لَنَا، وَحُبُّنَا اللهَ أَيْضًا قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِلَهِيٌّ. وَالحُبُّ الرُّوحَانِيُّ هُوَ الَّذِي يَسْعَى بِهِ فِي مَرْضَاتِ المَحْبُوبِ، لاَ يَبْقَى لَهُ مَعَ مَحْبُوبِهِ غَرَضٌ وَلاَ إِرَادَةٌ، بَلْ هُوَ بِحُكْمِ مَا يُرَادُ بِهِ خَاصَّةً.

وَالحُبُّ الطَّبِيعِيُّ هُوَ الَّذِي يُطْلَبُ بِهِ جَمِيعُ نَيْلِ أَغْرَاضِهِ سَوَاءٌ سَرَّ ذَلِكَ المَحْبُوبَ أَوْ لَمْ يَسَرَّهُ. وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ حُبِّ النَّاسِ اليَوْمَ.

فَلْنُقَدِّمْ أَوَّلاً الكَلاَمَ عَلَى الحُبِّ الإِلَهِيِّ فِي وَصْلٍ، ثُمَّ يَتْلُوهُ وَصْلٌ فِي الحُبِّ الرُّوحَانِي، ثُمَّ يَتْلُوهُ وَصْلٌ ثَالِثٌ فِي الحُبِّ الطَّبِيعِيِّ: (33)الأحزاب4 {وَاللهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}.

بَيَانُ الحُبُّ الإِلَهِيُّ

  الوَصْلُ الأَوَّلُ فِي الحُبِّ الإِلَهِيِّ:

وَهُوَ أَنْ يُحِبَّنَا لَنَا وَلِنَفْسِهِ. أَمَّا حُبُّهُ إِيَّانَا لِنَفْسِهِ فَهُوَ قَوْلُهُ:

« أَحْبَبْتُ أَنْ أُعْرِفَ فَخَلَقْتُ الخَلْقَ فَتَعَرَّفْتُ إِلَيْهِ فَعَرَفُونِي »

فَمَا خُلِقْنَا إِلاَّ لِنَفْسِهِ حَتَّى نَعْرِفُهُ. وَقَوْلُهُ: [51]الذاريات56 {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالاِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} فَمَا خُلِقْنَا إِلاَّ لِنَفْسِهِ.

وَأَمَّا حُبُّهُ إِيَّانَا لَنَا، فَلَمَّا عَرَفْنَا بِهِ مِنَ الأَعْمَالِ الَّتِي تُؤَدِّينَا إِلَى سَعَادَتِنَا وَنَجَاـِنَا مِنَ الأُمُورِ الَّتِي تُوَافِقُ أَغْرَاضَنَا وَلاَ تُلاَئِمُ طِبَاعَنَا، خَلَقَ سُبْحَانَهُ الخَلْقَ لِيُسَبِّحُوهُ، فَنَطَقَهُمْ بِالتَّسْبِيحِ لَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالسُّجُودِ لَهُ،

ثُمَّ عَرَّفَنَا بِذَلِكَ فَقَالَ:[17]الإسراء44 {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}أَيْ بِالثَّنَاءِ عَلأَيْهِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ وَمَا يَكُونُ مِنْهُ.

وَعَرَّفَنَا أَيْضًا فَقَالَ: (24)النور41{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَاَلأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍصه كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} فَلَزِمَ ذَلِكَ وَثَابَرَ ‘َلَيْهِ وَخَاطَبَ بِهَذِهِ الآيَةِ نَبِيَّهُ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذِي أَشْهَدَهُ ذَلِكَ وَرَآهُ فَقَالَ لَهُ:{أَلَمْ تَرَ}وَلَمْ يَقُلْ: أَلَمْ تَرَوْا، فَإِنَّا مَا رَأَيْنَا فَهُوَ لَنَا إِيمَانٌ وَهُوَ لِمُحَمَّدٍ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَيَانٌ.

وَكَذَا قَالَ لَهُ أَيْضًا لَمَّا أَشْهَدَهُ سُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ (22)الحج18{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} فَمَا تَرَكَ أَحَدًا. فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ، فَذَكَرَ العَالَمَ العُلْوِيَّ وَالسُّفْلِيَّ، فَأَشْهَدَهُ سُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ. فَكُلُّ مَنْ أَشْهَدَهُ اللهُ ذَلِكَ وَرَآهُ دَخَلَ تَحْتَ هَذَا الخِطَابِ. وَهَذَا تَسْبِيحٌ فِطْرِيٌّ ذَاتِيٌّ عَنِْ تَجَلٍّ تَجَلَّى لَهُمْ، فََأحَبُّوهُ، فَانْبَعَثُوا إِلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَكْلِيفٍ بَلِ اقْتِضَاءٍ ذَاتِيٍّ. وَهَذِهِ هِيَ العِبَادَةُ الذَّاتِيَّةُ الَّتِي أَقَامَهَا اللهُ فِيهَا بِحُكْمِ الاِسْتِحْقَاقِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي أَهْلِ الكَشْفِ وَهُمْ عَامَّةُ الإِنْسِ وَكُلُّ عَاقِلٍ:[16]النحل48 {أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلاَلُهُ عَنِ اليَمِينِ وَالشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} هَذَا حَظُّ النَّعِيمِ البَصَرِي.

ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ التَّفَيُّؤُ يَمِينًا وَشِمَالاً أَنَّهُ سُجُودٌ لِلَّهِ وَصِغَارٌ وَذِلَّةٌ لِجَلاَلِهِ فَقَالَ:{سُجَّدًا وَهُمْ دَاخِرُونَ} فَوَصَفَهُمْ بِعَقْلِيَّتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ حَتَّى سَجَدُوا لِلَّهِ دَاخِرِينَ.

ثُمَّ أَخْبَرَ فَقَالَ مُتَمِّمًا: [16]النحل49{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ} أَيْ مِمَّنْ يَدُبُّ عَلَيْهَا يَقُولُ يَمْشِي وهُمْ يَعْنِي أَهْلَ السَّمَاوَاتِ{المَلاَئِكَةُ} يَعْنِي الَّتِي لَيْسَتْ فِي سَمَاءٍ وَلاَ أَرْضٍ.

ثُمَّ قَالَ:{وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} يَعْنِي عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ.

ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِالخَوْفِ لِيُعْلِمُنَا أَنَّهُمْ عَالِمُونَ بِمَنْ سَجَدُوا لَهُ.

ثُمَّ وَصَفَ المَأْمُورِينَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: (66)التحريم6 {لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}

ثُمَّ قَالَ فِي الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ: [41]فصلت38{يُسَبِّحُونَ لَهُ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ} أَيْ لاَ يَملُّونَ، كُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ العَالَمَ كُلَّهُ فِي مَقَامِ الشُّهُودِ وَالعِبَادَةِ إِلاَّ كُلُّ مَخْلُوقٍ لَهُ قُوَّةُ التَّفَكُّرِ وَلَيْسَ إِلاَّ النُّفُوسُ النَّاطِقَةُ الإِنْسَانِيَّةُ وَالجَانِيَّةُ خَاصَّةً مِنْ حَيْثُ أَعْيَانِ أَنْفُسهُمْ لاَ مِنْ حَيْثُ هَيَاكِلِهِمْ، فَإِنَّ هَيَاكِلَهُمْ كَسَائِرِ العَالَمِ فِي التَّسْبِيحِ وَالسُّجُودِ، فََأعْضَاءُ البَدَنِ كُلُّهَا بِتَسْبِيحِهِ نَاطِقَةٌ. أَلاَ تَرَاهَا تَشْهَدُ عَلَى النُّفُوسِ المُسَخَّرَةِ لَهَا يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الجُلُودِ وَالأَيْدِي وَالأَرْجُلِ وَالأَلْسِنَةِ وَالسَّمْعِ وَالبَصَرِ وَجَمِيعِ القِوَى [40]غافر12{فَالحُكْمُ لِلهِ العَلِيُّ الكَبِيرُ}.

وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ حُكْمِ حُبِّهِ إِيَّانَا لِنَفْسِهِ. فَمَنْ وَفَى شَكَرَهُ وَمَنْ لَمْ يُوفِ عَاقَبَهُ. فَنَفْسُهُ أَحَبُّ، وَتَعْظِيمُهُ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ أَحَبُّ.

وَأَمَّا حُبُّهُ إِيَّانَا لَنَا، فَغِنَّهُ عَرَّفَنَا بِمَصَالِحِنَا دُنْيَا وَآخِرَةَ، وَنَصَبَ لَنَا الأَدِلَّةَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ حَتَّى نَعْلَمُهُ وَلاَ نَجْهَلُهُ.

ثُمَّ إِنَّهُ رَزَقَنَا وََأنْعَمَ عَلَيْنَا مَعَ تَفْرِيطِنَا بَعْدَ عِلْمِنَا بِهِ وَإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عِنْدَنَا، عَلَى أَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ نَتَقَلَّبُ فِيهَا، إِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ خَلْقِهِ وَرَاجِعَةٍ إِلَيْهِ، وَإِنَّهُ مَا أَوْجَدَهَا إِلاَّ مِنْ أَجْلِنَا لِنُنْعِمْ بِهَا وَنُقِيمُ بِذَلِكَ وَتَرَكَنَا نَرْأَسُ وَنَرْبَعُ.

ثُمَّ أَنَّهُ بَعْدَ هَذَا الإِحْسَان التَّامِّ لَمْ نَشْكُرْهُ وَالعَقْلُ يَقْضِي بِشُكْرِ المُنْعَمِ.

وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لاَ مُحْسِنَ إِلاَّ اللهَ. فَمِنْ إِحْسَانِهِ أَنْ بَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولاً مِنْ عِنْدِهِ مُعَلِّمًا وَمُؤَدِّبًا، فَعَلِمْنَا بِمَا لَنَا فِي نَفْسِهِ. فَشَرَّعَ لَنَا الطَّرِيقَ المُوصِلَ إِلَى سَعَادَتِنَا وَأَبَانَهُ وَحَذَّرَنَا مِنَ الأُمُورِ المَردِيَّة وَاجْتِنَابِ سَفْسَافِ الأَخْلاَقِ وَمَذَامِهَا.

ثُمَّ أَقَامَ الدَّلاَلَةَ عَلَى صِدِْقِهِ عِنْدَنَا، فَجَاءَ بِالبَيِّنَاتِ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِنَا نُورَ الإِيمَانِ وَحَبَّبَهُ إِلَيْنَا وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرَّهَ إِلَيْنَا الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ، فَآمَنَّا وَصَدَّقْنَا.

ثُمَّ مَنَّ عَلَيْنَا بِالتَّوْفِيقِ، فَاسْتَعْمَلَنَا فِي مَحَابِّهِ وَمَرَاضِيهِ.

فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَوْلاَ مَا أَحَبَّنَا مَا كَانَ شَيْء مِنْ هَذَا كُلِّهِ.

ثُمَّ أَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ وَإِنْ شَقَى مَنْ شَقَى، فَلاَ بُدَّ مِنْ شُمُولِ الرَّحْمَةِ وَالعِنَايَةِ وَالمَحَبَّةِ الأَصْلِيَّةِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي العَوَاقِبِ.

وَلَمَّا سَبَقَتْ المَحَبَّةُ وَحَقَّتِ الكَلِمَةُ وَعَمَّتِ الرَّحْمَةُ وَكَانَتِ الدَّارُ الدُّنْيَا دَارَ امْتِزَاجٍ وَحِجَابٍ بِمَا قَدَّرَهُ العَزِيزُ العَلِيمُ

 إعداد: محمد بن أحمد باغلي