الحمد لله أوجد الأشياء عن عدم وعدمه، وأوقف وجودها على توجّه كلمه، لنتحقّق بذلك سرّ حدوثها وقدمها من قدمه، ونقف عند هذا التحقيق على ما أعلمنا به  من صدق قدمه، ونقف عند هذا التحقيق على ما أعلمنا به من صدق قدمه. فظهر سبحانه وظهر وأظهر، وما بطن، ولكنه بطن وأبطن. وأثبت له الاسم الأوّل وجود عين العبد، وقد كان ثبت، وأثبت له الاسم الآخر تقدير الفناء والفقد وقد كان قبل ذلك ثبت. فلولا العصر والمعاصر، والجاهل والخابر، ما عرف أحد معنى اسمه الأوّل والآخر، ولا الباطن والظاهر. وإن كانت أسماؤه الحسنى، على هذا الطريق الأسنى، ولكن بينها تباين في المنازل، يتبين ذلك عندما تتخذ وسائل لحلول النوازل. فليس عبد الحليم، هو عبد الكريم، وليس عبد الغفور هو عبد الشكور. فكل عبد له اسم هو ربّه، وهو جسم ذلك الاسم قبله. فهو العليم سبحانه الذي علم وعلم، والحاكم الذي حكم وحكم، والقاهر الذي قهر وأقهر، والقادر الذي قدّر وكسّب ولمَ يقدِر الباقي الذي لم تقم به صفة البقاء، والمقدس عند المشاهدة عن المواجهة والتلقاء. بل العبد في ذلك الموطن الأنزه لاحق بالتنزيه، لا أنّه سبحانه وتعالىا في ذلك المقام الأنوه يلحقه التشبيه، فتزول من العبد في تلك
الحضرة الجهات، وينعدم عند قيام انظرة به منه الالتفات.
 

أحمده حمد من عَلِمَ أنّه سبحانه علا في صفاته وعلّى، وجلّ في ذاته وجلّى، وأنّ حجاب العزّة دون سبُحاته مسدل، وباب الوقوف على معرفة ذاته مقفل. إن خاطب عبده فهو المسمع السّميع، وإن فعل ما أمر بفعله فهو المطاع المطيع.

ولمّا حيّرتني هذه الحقيقة، انشدت على حكم الطريقة للخليقة:

الربّ حقٌّ والعبـد حقٌّ   يا ليت شعري مَن المُكَلَّف ؟

إن قلت عبدٌ فذاك ميِّتٌ   أو قلت ربٌّ أنّى يكَلَّف ؟

فهو سبحانه يطيع نفسه إذا شاء بخلقه، وينصف نفسه مما تعيّن عليه من واجب حقّه. فليس إلاّ أشباح خاليه، على عروشها خاويه، وفي ترجيع الصدى، سرُّ ما أشرنا إليه لمن اهتدى.

وأشكره شكر من تحقّق أن بالتّكليف ظهر الاسم المعبود، وبوجود حقيقة {لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ} ظهرت حقيقة الجود، وإلاّ فإذا جعلت الجنّة لما عملت، فأين الجود الإلـهيّ الذي عقلت ؟ فأنت عن العلم بأنّك لذاتك موهوب، وعن العلم بأصل نفسك محجوب. فإذا كان ما تطلب به الجزاء ليس لك، فكيف ترى عملك ؟

فأترك الأشياء وخالقها، والمرزوقات ورازقها، فهو سبحانه الواهب الذي لا يملّ، والملك الذي عزّ سلطانه وجلّ، اللّطيف بعباده الخبير، الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} الشورى [15]11  

 والصّلاة والسّلام على سرّ العالم ونكتته، ومطلب العالم وبغيته، السّيّد الصّادق، المدلج إلى ربّه الطّارق، المخترق به السبع الطّرائق ليريه من أسرى به ما أودع من الآيات والحقائق، فيما أبدع من الخلائق، الذي شاهدته عند إنشائي هذه الخطبة في عالم حقائق المثال، في حضرة الجلال، مكاشفة قلبيه، في حضرة غيبيه. ولمّا شاهدته –صلّى الله عليه وسلّم- في ذلك العالم سيّدا معصوم المقاصد، محفوظ المشاهد، منصوراً مؤيّدًا، وجميع الرّسل بين يديه مصطفون، وأمّته الّتي {هِي خَيْرَ أُمَّةٍ} عليه ملتفّون، وملائكة التّسخِيرِ من حول عرشِ مقامه حافّون، والملائكة المولدة من الأعمال بين يديه صافّون، والصّدّيق على يمينه الأنفس، والفاروق على يساره الأقدس، والختم بين يديه قد حنى، يخبره بحديث الأنثى، وعليّ يترجم عن الختم بلسانه، وذو النون مشتمل برداء حيائه مقبل على شأنه. فالتفت السيّد الأعلى، والمورد العذب الأحلى، والنّور الأكشف الأجلى، فرآني وراء الختم لاشتراكي بيني وبينه في الحكم. فقال له السيد: هذا عديلك، وابنك وخليلك .

انصب له منبر الطرفاء بين يديّ, ثمّ أشار إليّ أن قم يا محمّد عليه، فاثن على من أرسلني وعليّ، فإنّ فيك شعرة منّي، لا صبر لها عنّي، هي السلطانة في ذاتيتك، فلا ترجع إليّ بكليتك، ولا بدّ لها من الرّجوع إلى اللّقاء، فإنّها ليست من عالم الشّقاء. فما كان منّي بعد بعثي شيء في شيء إلاّ سعد. وكان ممّن شكر في الملإ الأعلى وحمد، فنصب الختم المنبر، في ذلك المشهد الأخطر، وعلى جبهة المنبر مكتوب بالنّور الأزهر:هذا هو المقام المحمّدي الأطهر. من رقى فيه فقد ورثه، وأرسله الحقّ حافظًا لحرمة الشّريعة وبعثه، ووهبت في ذلك الوقت مواهب الحكم، حتّى كأنّي أوتيت جوامع الكلم. فشكرت الله عزّ وجلّ وصعدت أعلاه، وحصلت في موضع وقوفه –صلّى الله عليه وسلّم- ومستواه، وبسط لي على الدّرجة الّتي أنا فيها كُمّ قميص أبيض فوقفت عليه، حتّى لا أباشر الموضع الذي باشره  –صلّى الله عليه وسلّم- بقدميه، تنزيهاً له وتشريفًا، وتنبيهاً لنا وتعريفًا، أن المقام الّذي شاهده من ربّه، لا يشاهده الورثة إلاّ من وراء ثوبه، ولولا ذلك لكشفنا ما كشف، وعرفنا ما عرف. ألا ترى من تقفو أثره، لتعلم خبره ؟ لا تشاهد من طريق سلوكه ما شهد منه، ولا تعرف كيف تخبر بسلب الأوصاف عنه، فإنّه شاهد مثلاً ترابًا مستوياً لا صفة له، فمشى عليه، وأنت على أثره لا تشاهد إلاّ أثر قدميه. وهنا سرّ خفيّ إن بحثت عليه، وصلت إليه، وهو من أجل أنّه إمام، وقد حصل له الأمام، لا يشاهد أثرًا ولا يعرفه. فقد كشفت ما لا يكشفه، وهذا المقام قد ظهر، في إنكار موسى –صلّى الله على سيّدنا وعليه وعلى الخضر-.

فلمّا وقفتُ ذلك الموقف الأسنى، بين يدي من كان من ربّه في ليلة إسرائه قاب قوسين أو أدنى، قمت مقنعًا خجلاً، ثمّ أيّدت بروح القدس، فافتتحت مرتجلاً:

يا    منزل   الآيات   والأنباء   أنزل عليّ معالـمَ الأَسماءِ

حتّى أكون لحمد ذاتك جامعًا   بمحامد السرّاء والضرّاء

ثمّ أشرت إليه –صلّى الله عليه وسلّم-:

ويكون هذا السيّد العلم الّذي    جــردتـه من دورة الخلفاء

وجعلته الأصل الكـريم وآدم    ما بين طينة خلقـــه والماء

ونقلته حتّى استــدار زمانه    وعطفت آخـره على الإبداء

وأقمته عبــدًا ذليلاً خاضعًا    دهـرًا يناجيكم بغار حـراء

حتّى أتاه مبشـرًا من عندكم    جبــريل المخصوص بالأنباء

قال السّلام عليك أنت محمّـد   ســرّ العباد وخاتـم النُّبآءِ

يا سيدي، حقًّا أقول ؟ فقال لي :  صدقًا نطقت فأنت ظلّ ردائي

فاحمد وزد في حمد ربّك جاهدًا     فلقـد وهبت حقائق الأشياء

وأنثر لنا من شأن ربّك ما انجلى   لفؤادك المحفوظ في الظلـماء

من كلّ حقّ قائـــم بحقيقة    يأتيك مملوكاً بغير شــراء

.

ثمّ شرعت في الكلام، بلسان علاّم. فقلت وأشرت إليه، –صلّى الله عليه وسلّم-: حمدت من أنزل عليك الكتاب المكنون، الذي {لاَيَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ}، المنزّل بحسن شيمك، وتنزيهك عن الآفات وتقديسك. فقال في سورة نُّ~ : بسم الله الرحمن الرحيم نُّ~ وَالقَلَمِ وَمَا يَسْطِرُونًَ {1} مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونِ{2} وَإِنَّ لَكَ لََأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونِ {3} وَإِنَّكَ لَعَلَىا خُلُقٍ عَظِيمٍ {4} فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ {5} القلم[68]1-5 .

ثُمَّ غمس قلم الإرادة في مداد العلم وخط بيمين القدرة في اللّوح المحفوظ المصون. كلّ ما كان وما هو كائن وسيكون وما لا يكون، ممّا لو شاء وهو لا يشاء أن يكون، لكان كيف يكون من قدره المعلوم الموزون، وعلمه الكريم المخزون فـ{سُبْحَـنَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}الصفات[37]180، ذلك الله الواحد الأحد، فتعالىا عمّا أشرك به المشركون.

فكان أوّل اسم كتبه ذلك القلم الأسمى، دون غيره من الأسماء: « إنّي أريد أن أخلق من أجلك يا محمد العالم الذي هو ملكك » فأخلق جوهرة الماء، فخلقتَها دون حجاب العزّة الأحمى، وأنا على ما كنت عليه ولا شيء معي في عمَا. فخلق الماء سبحانه بردة جامدة كالجوهرة في الاستدارة والبياض. وأودع فيها بالقوّة ذوات الأجسام وذوات الأعراض.

ثمّ خلق العرش واستوى عليه اسمه الرحمن، ونصب الكرسي وتدلّت إليه القدمان، فنظر بعين الجلال إلى تلك الجوهرة فذابت حياءً، وتحلّلت أجزاؤها فسالت ماءً، وكان عرشه على ذلك الماء، قبل وجود الأرض والسماء، وليس في الوجود إذ ذاك إلاّ حقائق المستوى عليه والمستوي والاستواء. فأرسل النفس، فتموّج الماء من زعزعه وأزبد. وصوت بحمد الحمد المحمود الحقّ عندما ضرب بساحل العرش، فاهتزّ السّاق وقال له: أنا أحمد. فخجل الماء ورجع القهقرى يريد ثبجه، وترك زبده بالساحل الذي أنتجه، فهو مخضة ذلك الماء، الحاوي على أكثر الأشياء. فأنشأ سبحانه من ذلك الزّبد الأرض،، مستديرة النشء مدحية الطول والعرض.

ثمّ أنشأ الدّخان من نار احتكاك الأرض عند فتقها، ففتق فيه السموات العلى، وجعله محل الأنوار ومنازل الملأ الأعلى، وقابل بنجومها المزيّنة لها النيّرات، ما زيّن به الأرض من أزهار النبات، وتفرّد تعالىا لآدم وولديه، بذاته جلت عن التّشبيه ويديه. فأقام نشأة جسديّة، وسواها تسويتين:تسوية انقضاء أمده، وقبول أبده. وجعل مسكن هذه النشأة نقطة كرة الوجود وأخفى عينها.

ثمّ نبّه عباده عليها بقوله تعالىا: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}الرعد(13)2. فإذا انتقل الإنسان إلى برزخ الدّار الحيوان، مارت قبة السّماء وانشقّت، فكانت شعلة نار سيال كالدّهان. فمن فهم حقائق إضافات، عرف ما ذكرنا له من الإشارات، فيعلم قطعًا أنّ قبّة لا تقوم من غير عمد، كما لا يكون والد من غير أن يكون له ولد. فالعمد هو المعنى الماسك. فإن لم ترد أن يكون الإنسان فاجعله قدرة المالك، فتبيّن أنّه لا بدّ من ماسك  يمسكها، وهي مملكة فلا بدّ لها من مالك يملكها، ومن مسكت من أجله فهو ماسكها، ومن وجدت له بسببه فهو مالكها. ولما أبصرت حقائق السّعداء والأشقياء عند قبض القدرة عليها بين العدم والوجود وهي حالة الإنشاء حسن النّهاية، بعين الموافقة والهداية، وسوء الغاية بعين المخالفة والغوايه، سارعت السعيدة إلى الوجود وظهر من الشقية التثبط والإباية, ولهذا أخبر الحقّ عن حالة السعداء فقال: {أُوْلَــئِكَ يُسَـرِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَـبِقُونَ}المؤمنون[23]61 يشير إلى تلك السّرعة. وقال في الأشقياء: {فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اَقْعُودُوا مَعَ القَـعِدِينَ}التوبة(9)46 يشير إلى تلك الرجعه. فلولا هبوب تلك النفحات على الأجساد ما ظهر في هذا العالم سالك غيّ ولا رشاد.ولتلك السرعة والتثبط أخبرتنا –صلّى الله عليه عليك- « أنّ رحمة الله سبقت غضبه« ، هكذا نسب الرّاوي إليك.

ثمّ أنشأ سبحانه الحقائق على عدد أسماء حقّه، وأظهر ملائكة التّسخير على عدد خلقه، فجعل لكلّ حقيقة اسماً من أسمائه تعبده وتعلمه، وجعل لكلّ سرّ حقيقة ملكاَ يخدمه ويلزمه.

فمن الحقائق من حجبته رؤية نفسه عن اسمه، فخرج عن تكليفه وحكمه، فكان له من الجاحدين.

ومنهم من ثبت الله أقدامه واتّخذ اسمه إمامه، وحقّق بينه وبينه العلاّمه، وجعله أمامه، فكان له من السّاجدين.

ثمّ استخرج من الأب الأوّل أنوار الأقطاب شموسًا تسبح في أفلاك المقامات، واستخرج أنوار النجباء نجومًا تسبح في أفلاك الكرامات، وثبت الأوتاد الأربعة للأربعة الأركان، فانحفظ بهم الثقلان – فأزالوا ميد الأرض وحركتها، فسكنت فأزينت بحلي أزهارها وحُلل نباتها وأخرجت بركتها- فتنعمت أبصار الخلق بمنظرها البهي، ومشامّهم بريحها العطري وأحناكهم بمطعومها الشّهي.

ثمّ أرسل الأبدال السّبعة، إرسال حكيم عليم، ملوكاً على السّبعة الأقاليم، لكلّ بدل إقليم، ووزر للقطب الإمامين، وجعلهما إمامين على الزمامين. فلمّا أنشأ العالم على غاية الإتقان، ولم يبق أبدع منه، كما قال الإمام أبو حامد، في الإمكان، وأبرز جسدك –صلّى الله عليك – للعيان، أخبر عنك الرّاوي، أنّك قلت يومًا في مجلسك: « إِنَّ اللهَ كَانَ وَلاَ شَيْءَ مَعَهُ بَلْ هُوَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ  » وهكذا هي –صلّى الله عليك- حقائق الأكوان، فما زادت هذه الحقيقة على جميع الحقائق، إلاّ بكونها سابقة وهنّ لواحق، إذ من ليس مع شيء فليس معه شيء. ولو خرجت الحقائق على غير ما كانت عليه في العلم لانمارت عن الحقيقة المنزّهة بهذا الحكم.

فالحقائق الآن في الحكم على ما كانت عليه في العلم. فلنقل: كانت ولا شيء معها في وجودها، وهي الآن على ما كانت عليه في علم معبودها. فقد شمل هذا الخبر الذي أطلق على الحقّ، جميع الخلق، ولا تعترض بتعدّد الأسباب والمسبّبات، فإنّها ترد عليك بوجود الأسماء والصّفات، وأن المعاني التي تدل عليها مختلفات. فلولا ما بين البداية والنهاية سبب رابط وكسب صحيح ضابط، ما عرف كل واحد منها بالآخر، ولا قيل على حكم الأوّل يثبت الآخر، وليس إلاّ الربّ والعبد وكفى. وفي هذا غنية لمن أراد معرفة نفسه في الوجود وشفا. ألا ترى أنّ الخاتمة عينُ السّابقه، وهي كلمة واجبة صادقة؟ فما للإنسان يتجاهل ويعمى، ويمشي في دجنّة ظلماء حيث لا  ظلّ ولا ماء. وأنّ أحقّ ما سمع من النّبإ، وأتى به هدهد الفهم من سبإ، وجود الفلك المحيط، الموجود في العالم المركّب والبسيط، المسمّى بالهباء، وأشبه شيء به الماء والهواء، وإن كانا من جملة صوره المفتوحة فيه. ولمّا كان هذا الفلك أصل الوجود وتجلّى له اسمه النّور من حضرة الجود كان الظّهور، وقبلت صورتك –صلّى الله عليك- من ذلك الفلك أوّل فيض ذلك النّور. فظهرت صورة مثليه، مشاهدها عينيه، ومشاربها غيبيه، وجنّتها عدنيه، ومعارفها قلميه، وعلومها يمينيه، وأسرارها مداديه، وأرواحها لوحيه، وطينتها آدميه. فأنت أب لنا في الروحانيّه، كما كان وأشرت إلى آدم –صلّى الله عليه – في ذلك الجمع أبًا لنا في الجسميه. والعناصر له أمّ ووالد. كما كانت حقيقة الهباء في الأصل مع الواحد، فلا يكون أمر إلاّ عن أمرين، ولا نتيجة إلاّ عن مقدّمتين. أليس وجودك عن الحقّ سبحانه وكونه قادرًا موقوفاً، وأحكامك عليه من كونه عالمًا موصوفًا، واختصاصك بأمر دون غيره مع جوازه عليك عليه من كونه مريدًا معروفًا. فلا يصحّ وجود المعدوم عن وحيد العين، فإنّه من أين يعقل الأين ؟ فلا بدّ أن تكون ذات الشيء أينًا لأمر ما، لا يعرفه من أصبح عن الكشف على الحقائق أعمى، وفي معرفة الصفة والموصوف، تتبيّن حقيقة الأين المعروف، وإلاّ فكيف تسأل –صلّى الله عليك- بأين وتقبل من المسؤول فاء الظرف ؟

ثمّ تشهد له بالإيمان الصّرف، وشهادتك حقيقة لا مجاز، ووجوب لا جواز، فلولا معرفتك –صلّى الله عليك- بحقيقة ما، ما قبلت قولها مع كونها خرساء في السّماء.

ثمّ بعد أن أوجد العوالم اللطيفة والكثيفة، ومهد المملكة وهيّأ المرتبة الشّريفة، أنزل في أوّل دورة العذراء الخليفه، ولذلك جعل سبحانه مدتنا في الدنيا سبع آلاف سنة، وتحلّ بنا في آخرها حال فناء بين نوم وسنه، فنتقبّل إلى البرزخ الجامع للطرائق، وتغلب فيه الحقائق الطيارة على جميع الحقائق، فترجع الدولة للأرواح، وخليفتها في ذلك الوقت طائر له ستمائة جناح، وترى الأشباح، في حكم التّبع للأرواح، فيتحوّل الإنسان في أي صورة شاء، لحقيقة صحّت له عند البعث من القبور في الإنشاء، وذلك موقوف على سوق الجنّه، سوق اللّطائف والمنّة.

فانظروا رحمكم الله، وأشرت إلى آدم في الزمردة البيضاء، قد أودعها الرّحمن في أوّل الآباء.

وانظروا إلى النّور المبين، وأشرت إلى الأب الثاني الذي سمّانا مسلمين.

وانظروا إلى اللجين الأخلص، وأشرت إلى من أبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله كما جاء به النصّ.

وانظروا إلى جمال حمرة ياقوتة النفسنذ، وأشرت إلى من بيع بثمن بخس.

وانظروا إلى حمرة الإبريز، وأشرت إلى الخليفة العزيز.

وانظروا إلى نور الياقوتة الصفراء في الظّلام، وأشرت إلى من فضل بالكلام.

فمن سعى إلى هذه الأنوار، حتّى وصل إلى ما يكشفه لك طريقها من الأسرار، فقد عرف المرتبة التي لها وجد، وصحّ له المقام الآليّ وله سجد، فهو الربّ والمربوب، والمحبّ والمحبوب.

أنظر إلى بدء الوجود وكن به    فطنًا تَـرَ الجودَ القديم المحدِثا

والشيء مثل الشيء إلاّ أنّـه    أبـداء في عين العوالم  محدَثا

إن أقسم الرّائي  بأنّ وجوده     أزلاً فبـرٌّ  صادق  لن  يحنثا

أو أقسم الرّائي  بأنّ وجوده      عن فقده أحرى وكان مثلثا

ثمّ أظهرتُ أسراراً، وقصصتُ أخبارًا، لا يسعُ الوقتُ إيرادَها، ولا يعرِف أكثرُ الخلقِ إيجادَها. فتركتها موقوفةً على رأس مهيعها، خوفًا من وضع الحكمة في غير موضعها.

ثمّ رُدِدتُ من ذلك المشهد النّوميّ العَلِيّ إلى العالم السّفلي. فجعلت ذلك الحمد المقدّس خطبة الكتاب، وأخذتُ في تتميم صدره.

ثمّ أشرع بعد ذلك في الكلام على ترتيب الأبواب، والحمد لله الغنيّ الوهّاب.