مقدمة المؤلف لكتاب الفتوحات المكية
قُلْنَا: وربّما وقع عندي أن أجعل في هذا الكتاب: أوّلاً فصلاً في العقائد المؤيّدة بالأدلّة القاطعة والبراهين السّاطعة، ثمّ رأيت أنّ ذلك تشغيب على المتأهّب الطّالب للمزيد، المتعرّض لنفحات الجود بأسرار الوجود. فإنّ المتأهّب، إذا لزم الخلوةَ والذّكرَ، وفرغَ المحلَّ من الفكر، وقعدَ فقيرًا لا شيءَ له عند باب ربّه، حينئذ يمنحُه الله تعالىا ويعطيه من العلمِ به، والأسرارِ الإلهيّة، والمعارفِ الربّانيّة الّتي أثنى الله سبحانه بها على عبده الخِضْرِ فقال:{عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَآ ءَآتَيْنَهُ رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَـهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} 18]الكهف65 ؛ وقال تعالىا {وَاتَّقُوا اللهَصه وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُصه} 2) البقرة 282 ؛ وقال {إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَكُمْ فُرْقَانًا} الأنفال29 ؛ وقال {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} الحديد 28 . قيل للجنيد: بمَ نِلْتَ ما نِلْتَ ؟ فقال: بجلوسي تحت تلك الدّرجة ثلاثين سنة. وقال أبو يزيد: أخذتم علمَكم ميّتًا عن ميّتٍ، وأخذنا علمَنا عنِ الحَيّ الّذي لا يموت. فيحصل، لصاحب الهمّة في الخلوة مع الله وبه جلّت هبته وعظمت منّته، من العلوم ما يغيب عندها كلُّ متكلّمٍ على البسيطة، بل كلُّ صاحبِ نظرٍ وبرهانٍ ليست له هذه الحالة، فإنّها وراء النّظر العقلي إذ كانت العلوم على ثلاث مراتب: 1. علم العقل: وهو كلّ علم يحصل لك ضرورة أو عقيب نَظَرٍ في دليل بشرط العثور على وجه ذلك الدّليل وشبهه من جنسه في عالم الفكر الّذي يجمع ويختصّ بهذا الفنّ من العلوم. ولهذا يقولون في النَّظَرِ: منه صحيح، ومنه فاسد 2. والعلم الثاني: علم الأحوال ولا سبيل إليها...
Lire la suite
Commentaires récents