الصلات الثقافية و الفكرية بين
قسنطينة و تلمسان
بقلم
د.عبد العزيز فيلالي
résumé
Constantine et Tlemcen comptent parmi les villes les plus anciennes d’Algerie. Elles se convertirent à l’islam avec l’arrivée d’Alou Muhajir Dinar et depuis ce temps là, elles ont entretenu des relations culturelles, intellectuelles et mystiques puisées à la source de l’islam et auxquelles ont contribué aux moyen-âge, des hommes de science de ces deux villes tel que El- Fegoun,El-Malary, Ibn-Gounfoud, Ibn-Badis, Ibn-Khelouf, Ibn-Marzoug, El-Mekri, Cherif-Telemceni.
A l’époque ottomane ces relations entre les hommes de science des deux villes se sont perpétuées ainsi Bouabdellah Mohamed ben Badis et Ahmed El Mekri de Tlemcen entretenaient une correspondance autour de questions intellectuelles et linguistiques. Comme il existe jusqu’à ce jour dans la ville de Constantine une zaouia qui porte le nom de (Sidi Ali Tlemceni).
Pendant l’occupation française le grand érudit Abdelkader El Majaoui de Tlemcen est venu à Constantine où il s’est installé comme enseignant et animateur de la renaissance spirituelle, scientifique et réformiste.
Le leader de la renaissance islamique en algerie, l’imam Abdelhamid Ben Badis rendait souvent visite aux gens de Tlemcen et avait beaucoup d’affection pour cette ville ou il inaugura (Dar el Hadith) et d’où il rédigea un appel aux constantinois en particulier et aux algériens en général afin de boycotter la célébration du centenaire de la prise de Constantine.
ان دراسة المدن ، تتطلب التركيز على موقعها وبعدها الزماني والجغرافي وما تتضمنه من تنمية بشرية واقتصادية وحضارية في الماضي البعيد والقريب، لان التاريخ هو أساس فهم الحاضر، ولأن المدن لا تنمو من فراغ ، وانما تنمو وتترعرع متآثرة بعوامل بشرية وطبيعية واقتصادية وثقافية ، ومتغيرات تؤثر في خصائصها ووظائفها ،وأن دراسة المدن، تعد من الدراسات، التي تبيّن الاستقرار البشري وتحدد نوع نشاطاته المختلفة، وقد عرفت الجزائر تأسيس المدن وإنشائها في الألفية الأخيرة قبل الميلاد.
وتعد كل من مدينتي قسنطينة وتلمسان، من المدن العريقة في الجزائر، عرفتا الاستقرار البشري منذ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، وصارت الأولى (قسنطينة) عاصمة للدولة النوميدية الشرقية إبتداءا من القرن الرابع قبل الميلاد، وأصبحت الثانية (تلمسان) عاصمة إقليمية لغرب الجزائر في عهد المماليك المحلية، وخضعت كل منهما للاحتلال الروماني والوندالي والبيزنطي ما بين القرنين الثاني والسابع الميلاديين.
عرفت مدينة قسنطينة بثلاثة اسماء هي : كرثن ، سرتا، قسطنطينة، وعرفت تلمسان ايضا ثلاثة أسماء هي : بوماريا، أڤادير وتلمسان.
دخلت قسنطينة الى دائرة الاسلام ، في منتصف القرن الاول الهجري واحتضن اهلها الاسلام واللغة العربية مبكرا، في عهد ابي المهاجر دينار ما بين سنتي 55هـ/62هـ-674-681 ، الذي قام بنقل عاصمة ولايته من القيروان الى مدينة » ميلة » في الجزائر سنة 59هـ/677 ومكث بها نحو سنتين كاملتين فتح خلالها مدينتي » تيديس » وقسنطينة ومنهم جميعا وجه البعثات والسرايا والحملات نحو المغرب الاوسط (الجزائر)، وصار يدير من ميلة شؤون الولاية ، فتمكن من فتح بلاد الجزائر، بفضل جهود ومساهمة رجال كتامة ماليا واقتصاديا وعسكريا، بنصيب كبير في اتمام فتح المغرب الاوسط (الجزائر) وكان لهم شرف الدفاع عنه ونشره الى ان اوصلوه الى تلمسان(1).
اما مدينة تلسمان فقد دخلتها طلائع ابي المهاجر دينار ، ثم عقبة بن نافع في حملته الثانية ( 62-64/681-683) في العقد الاول من النصف الثاني من القرن الاول الهجري ، وهي الفترة الزمنية تقريبا التي دخلت فيها قسنطينة الى حاضرة الاسلام. واصبحت تلمسان في عهد موسى بن نصير، في نهاية القرن الاول الهجري تقريبا ، مقرا مفضلا لطارق بن زياد، يقيم فيها مع زوجته « ام حكيم » وحاشيته و جنده وهيئة اركانه.(2)
و كان طارق بن زياد يحكم المنطقة الواقعة ما بين تلمسان وطنجة ويفضل الاقامة بالاولى (تلمسان)، ويدير منها شؤون عمالته، وقد استقبل طارق بن زياد في تلمسان مقر حكمه »الكونت يوليان » حاكم مدينة « سبتة » مع ابنتيه، واتفق معه على مشروع فتح الاندلس، وبهذا يكون اهل تلمسان بقيادة العالم الزناتي « الياس المغيلي » التلمساني الذي اعتنق الاسلام مبكرا، قد حملوا لواء الجهاد، الى جانب جيش طارق بن زياد وتحت لوائه، في اتمام فتح الربوع المغربية وبلاد الاندلس(3)، بأموالهم ورجالهم وفلذات أكبادهم.
خضعت مدينة قسنطينة في العهد الاسلامي للدولة الاغلبية والفاطمية والزيرية والحمادية والموحدية ثم الدولة الحفصية.
وكذلك خضعت تلمسان في الوقت ذاته، الى امارة محلية مغراوية ثم الى الدولة الادريسية واحيانا للفواطم ومغراوة تحت نفوذ عبد الرحمان الناصر الاموي الاندلسي في القرن 4هـ/10م ، ثم المرابطين والموحدين، وصارت عاصمة للدولة الزيانية سنة 633هـ.
الصلات الثقافية و الفكرية :
ان الحديث عن الصلات الثقافية والفكرية والمثاقفة الصوفية بين تلمسان وقسنطينة والأخذ والعطاء الحضاري، وتحديد درجة استفادة اهل الحاضرتين من بعضهما، تعوزه النصوص المنوغرافية والمصادر الاساسية، بحيث مرت على هذا الجانب مرور الكرام، وما ذكرته من نتف و شذرات جاء محتشما لا يشفي غليل الباحث، و خاصة في العصور الوسطى.
ولكن ظاهرة الصلات الثقافية والفكرية بين قسنطينة وتلمسان، برزت منذ أن احتضن بلاد المغرب الدين الاسلامي واللغة العربية، وأصبح يتفاعل مع منظومة العلوم الاسلامية، ولاسيما بعد ان تصدرت هذه العلوم الحواضر الكبيرة، ساهم علماء قسنطينة وتلمسان في نشرها وازدهارها، وتكوين نخبتها عبر الحواضر المغربية والمشرقية والاندلسية.
فكانت مدينة قسنطينة معبرا للطلاب و العلماء والحجاج نحو بلاد المشرق، وصارت تلمسان محطة للعلماء والطلاب والمتصوفة القادمين من الاندلس والمغرب الاقصى يؤمون مساجدها ومدارسها وزواياها ، فكانت محجا للصوفية و المريدين ، للوقوف على ضريح ابي مدين شعيب بالعباد والتبرك به والدعاء عنده ، و الالتقاء بالأولياء الصالحين التي تزخر بهم مدينة تلمسان ولبس الخرقة منهم.
فكانت اخبار وكرامات المتصوف »ابي يعزي يلنور »(ت 572هـ/م 1178) تصل الى مدينة تلمسان ومدينة قسنطينة ومنها خبر شجرة التين الموجودة ببيته، والتي لا ينقطع منها التين طوال السنة وقد سافر أحد وجهاء قسنطينة من بني علناس رفقة أخيه الحاج ميمون الى جنوب مكناس حيث يوجد بيت أبي يعزي للتأكد من شجرة التين وكرامة الشيخ فأكلا من تينها (4) وقد تأثر الخطيب ابن قنفذ بخوارق أبي يعزي و زار قبره سنة 761هـ/1359 م(5)، ويعني هذا أن أهل المدينتين كانوا يأخذون التصوف من مشرب واحد ومن منبع مشترك.
كما انتشرت في المدينتين الطريقة المدينية، وهي مدرسة ابي مدين شعيب الغوث (ن594/1198م) التي ضمنها صاحبها الجانب العملي المأخوذ من مدرسة المجاهدات العملية المغربية، وطعّمها بالأفكار الصوفية الاندلسية التجريدية، في اتجاهها الباطني ووحدة الوجود، واستمد فكرة تنظيم الطريقة وطقوسها من المتصوف عبد القادر الجيلاني أو الكيلاني (ت 560/1165).(6)
وقد رفض أبو مدين شعيب أسلوب التقشف والزهد السطحي الظاهر، القائم على ترك الملذات في المأكل والملبس والتطيب والعطر، لأن الزهد في نظره فضيلة وفريضة وقربى(7). وكان يلتزم بالتصوف السني، ولذلك كانت طريقته واسطة بين طريقة الجيلاني القادرية وعدد آخر من الطرق اهمها الطريقة الشاذلية في المغرب الاسلامي.(8)
وقد صارت مدينة تلمسان ما بين القرنين 7 و9هـ/13-15م عاصمة للزهد والتصوف والفقه المالكي، ومنبرا للحضارة الاسلامية، ووسطا للحركة الباطنية و للغليان الروحي، ومشتلة للعلم والمعارف، وخزانا للعلماء و الفقهاء و المتصوفة بفضل التواصل الثقافي و الفكري و العلمي مع حواضر الغرب الاسلامي.
لعبت البيوتات العريقة في المدينتين ( قسنطينة و تلمسان) دورا بالغ الاهمية في النهضة الفكرية والعلمية ،و كانت العامل الاساسي في التواصل الفكري و الثقافي بين اهل قسنطينة و اهل تلمسان ، و لاسيما منها : اسرة لفكون ، و اسرة ابن قنفد ، و اسرة ابن باديس و أسرة ابن عبدون من قسنطينةو أسرةالمرازقة ،و المقري و الشريف العلونيو ابنا الإمام و أسرة ابن النجار و العقباني و غيرها من تلمسان ، بحيث كانت تتبادل الزيارات السياحية الروحية و العلمية بين المدينتين و التدريس بهما، وحضور الطقوس الصوفية و المجالس العلمية .
و الظاهر أن رموز الفعاليات الدينية و الفكرية و العلمية و الادبية و التصوف في المجتمع القسنطيني و التلمساني، كانوا محل تقدير و عنايةو احترام من قبل السلطة الحفصية و الزيانية ، و هذا الاسلوب يعد دلالة واضحة للتوازنات التي تريدها السلطة بين أهل المعقول و المنقول و التصوف ، و قد استفاد اصحاب علم الباطن من هذا السلوك ، فكان لهم الازدهارو الانتشار في الحواضر الكبرى للمغرب الاوسط و أريافه.(9)
فقد قام أبو علي حسن علي بن لفكونالقسنطيني ( بعد602هـ/1205) و هو الكاتب الكبير، وشاعر وقته ، يعد من العلماء البارعين الغزيري الانتاج في المنظوم و المنثور ، خلف ديوانا شعريا مدح فيه ابن عبد المومن ، في رحلة سياحية علمية من مسقط رأسه حاضرة قسنطينة ، زار خلالها أغلب مدن المغرب الاوسط و الاقصى ، الى ان حط رحاله في مراكش عاصمة الموحدين .
لأن الرحلة في طلب العلم ، هي ميزة تلك العصور ، يقول عنها ابن خلدون : » فالرحلة لابد منها في طلب العلم ، لاكتساب الفوائدو الكمال، بلقاء المشايخ و مباشرة الرجال »(10)
فبقدر ما كانت الرحلة فحصا للأغوار ، و وصفا للأمصار و تقصيا للحقائق و للأحوال و الاوضاع الجغرافية و الاقتصادية و البشرية و الثقافية ، فانها أيضا عاملا من عوامل التزود بالعلوم و المعارف ، والأخذ من الشيوخ و التتلمذ عليهم.
دوّن الشاعر ابن لفكون ، جولته هذه في قصيدة شعرية طويلة ضمنها احاسيسه تجاه المدن التي زارها ، تعد من درر المنظوم و نفائسه.
فمكث في تلمسان التي أعجب بها مدة اتصل بعلمائها و أدبائها.
فكانت له مناظرات أدبية ، و فكرية مع بعضهم ، و قد خص حاضرة تلمسان بقوله :
و في وهران قد أمسيت رهنا * لظامي الخصر ذيردف روي
وابدت لي تلمسـان قـــدودا * جـلبن الشوقللقلبالخلي(11 )
ولما جئت وجدة همت وجدا * بمنخنث المعاطف معنوي
وكان الفقيه المتحدث ابو محمد عبد العزيز بن عمر بن مخلوف المكني بأبي فارس (ت 681/1287) من مواليد تلمسان ، تعلم بها ، ثم انتقل الى مدينة بجاية في رحلة لطلب العلم ، فأخذ عن شيوخها من علم المنقول و المعقول ، مثل ابي الحسن الحرّاني و أبي العباس الملياني ، و تقلد بها قضاء الانكحة ، ثم غادر بجاية ليستقر في مدينة قسنطينة ، فدرس بها ، و التقى بعلمائها وصفه الغبريني بأنه خزانة مالك بن أنس، احتك بالفقهاء و كان مشاورا لهم ، و كانت فتواه هي التي يجري بها العمل ، تقلد وظيفة القضاء ، و مارسها بمدينة قسنطينة ، توفي بمدينة الجزائر ( ت681/1287)(12).
و هذا دليل على ان علماء المغرب الأوسط ، كانوا يتبادلون الزيارات
والافكار ويتناظرون في امهات الكتب و يقومون بالتدريس ويتقلدون الوظائف ، فالمثاقفة بينهم متواصلة بالرغم من ان قسنطينة تقع تحت نفوذ الحفصيين وتلمسان عاصمة بني زيان.
وقد زار محمد بن احمد بن مرزوق ( 781/1380) مدينة قسنطينة عدة مرات الاولى و هو لا يزال شابا لم يتجاوز 19 من عمره، في طريقه الى البقاع المقدسة رفقة والده ابو العباس احمد بن مرزوق (741هـ/م 1341) فتتلمذ على بعض الفقهاء و الصلحاء بالمدينة و لاسيما منهم قاضيها كما أشار هو الى ذلك في مجموعه.
و رجع اليها استاذا زائرا درّس بها مجموعة من العلوم منها كتاب البخاري في الحديث ، قال عنه ابن قنفذ الخطيب الذي تعلم على يده بعض العلوم : » شيخنا الفقيه توفي بالقاهرة ، و دفن بين أبي القاسم و أشهب ، له طريق واضح في الحديث ، و لقي أعلاما ،و أسمعنا حديث البخاري و غيره في مجالس مختلفة ، و لمجلسه لياقة و جمال، و لينمعاملة، و له شرح جليل على ‘العمدة’ في الحديث والبردة »(13).
وزارها مرة ثالثة مع السلطان أبي الحسن المريني (731-749هـ/1331-1349م) ،الذي توقف في مدينة قسنطينة بعد الاستلاء عليهافأقام ابن مرزوق مع أسرة السلطان المريني بها ، و لما كانت وقعة القيروان على أبي الحسن،و ثار سكان مدينة قسنطينة على بني مرين سنة 749/1349و على وجودهم في المدينة خرج منها ابن مرزوق رفقة أسرة السلطان و توجهوا الى مدينة بسكرة(14).
و كان الفقيه المتصوف أبي هادي (747هـ/1347م) قد تجرأ على أبي الحسن ، و طلب منه العودة من حيث أتى و ترك افريقية و قسنطينة و شأنهما، إلاّأن أبا الحسن رفض طلبه و نصيحته ، فكانت الكارثة عليه ، بالرغم من أن، السلطان المريني ، كان شديد الحرص على التقرب من المتصوفة، وزيارتهم و التبرك بهم و معانقتهم ، كما كان يفعل مع أبي هادي مصباح الصنهاجي ، صاحب زاوية بقسنطينة ، ويمنح لهم الهدايا و يكتب لهم ظهائر التشريف و التكريم ، مثل ما فعل مع الخطيب حسن بن خلف بن باديس (784/1372) و أخيه أبي القاسم شيخ الحرابة (15).
و كان الخطيب محمد بن مرزوق يجلس مع المتصوف أبي هادي في مدينة قسنطينة، و يبجله ويعتقد فيه يقول عنه : »من كبار اصحابه ( السلطان أبو الحسن ) الذي كان يعظمهم الشيخ الصالح العارف العابد القانت الفاضل أبو محمد عبد الهادي (أبو هادي)أحد اولياء الله البدلاء ، الخاشعين الأتقياء أصحاب كرامات و أحوال و مقامات ، أحد المتصوفين الطاهرين ، و خاتمة الأولياء المتقين ،لم ير مثله أبدا في المغرب ، و كان والدي أبو العباس (ت741/1340) شديد الاعتقاد فيه »(16).و كان المتصوف أبو هادي يزور زاوية العباد و ينزل بها مع أتباعه و يقيمون بها جميعا مدة من الزمن عاكفين .
و قد شاهد ابن قنفذ في زياراته العديدة الى العباد تواصل عملية الانقطاع و الاعتكاف بهذه الزاوية ( زاوية العباد) و استمرار نشاطها الاجتماعي في الانفاق على المنقطعين و العاكفين .(17)
و كان يرافق أبو الحسن مجلسا من العلماء و الفقهاء استقروا بمدينة قسنطينة، و كان من بينهم الخطيب ابن مرزوق،و أبو عبد الله محمد المقري (757/1356) والشريف العلوني التلمساني(771هـ/1369) الذي عين قاضيا على حاضرة قسنطينة ، فتواصلواجميعا مع علماء هذه المدينة بالأخذ و العطاء الفكري و لاسيما منهم القاضي المحدث حسن بن أبي القاسم بن باديس القسنطيني (778هـ/1376م)(18).
و عاد اليها ابن مرزوق الخطيب مرة أخرى مع السلطان أبي عنان في حملته الشهيرة على افريقية سنة(758هـ/1356م) ضمن المجلس العلمي للسلطان ، فدخل المدينة بعد حصار طويل ، ومكث العلماء التلمسانيون الثلاثة في مدينة قسنطينة ، يدرسون المنقول و المعقول و يجلسون مع علمائها ونخبتها.
و كان أبو عنان ، قد اختار المقري للكتابة و قاضي العسكر ، اثناء حملته على مدينة قسنطينة ، التي اتخذ فيها موقفا مشددا ، ضد الولي الخطيب حسن بن خلف الله بن باديس السالف الذكر، لأنه رفض الغزو المريني ، و كان يحمس المقاتلين ضدهم بخطبه المؤثرة على أهل قسنطينة ، فنزع منه ظهير التشريف و التكريم الذي منحه أياه أبو الحسن و نفاه و سجن أخاه شيخ الحرابة.(19)
و قد أشار ابن قنفذ الى المحاورة و المناظرة الفقهية التي دارت بين أبي هادي مصباح سعيد الصنهاجي ( 748/1347) صاحب زاوية بقسنطينة مع فقهاء تلمسان ، و لاسيما و أن أبا هادي ينتمي الى الطائفة المجاريةو التي اخذها عن أبي لقمان المراكشي ، قبل ان يتحول الى الطريقة المدنية عن طريق شيخ زاوية ملارة.(20)يعقوب الملاري (717هـ/1317م) بملارة ( فرجيوة) و قسنطينة.
اما الفقيه أبو عبد الله محمد بن محمد بن مرزوق الحفيد ( ت 842/1438)الذي شرّق و غرّب ، فكان له فضل الاقراء من المغرب الى الحجاز ، اشتهر بعلمه و فضله في الأمصار التي زارها ، فقد مكث في مدينة قسنطينة نحو ثمانية أشهر مدرسا و مفتيا و مجتهدا خلال سنة 837/1433 اثناء رحلته الى البقاع المقدسة ، تتلمذ عليه طلاب كثيرون و كانوا يتزاحمون على مجلسه، و لاسيما منهمإبراهيم بن فايد بن موسى بن هلال ( ت 857/1455) الذي اخذ عليه الأصليين و المنطق و المعاني و البيان فضلا عن علم الفقه، و الظاهر ان ابن هلال استغل وجود ابن مرزوق في قسنطينة ، فلازمه و تقرب منه حتى أخذ عنه غالب العلوم المتداولة عنده ، كما اشار التنبكتي(21).
و أما الفقيه احمد بن يونس بن سعيد القسنطيني ، فقد تزود بمؤلفاته منها شرحه على البردة(22).
و في مجال التصوف فقد انفتحت قسنطينة على زاوية العباد بتلمسان واعتنقت طريقتها عن طريق يعقوب بن عمران البويوسفي (ت717/1317) الذي تتلمذ على الشيخ مسعود بن عريف ، أحد أصحاب القطب ابي مدين (594هـ)الذي ينحدر من جبال الشلف ، فتأثر به يعقوب الملاري تأثرا كبيرا لدرجة ان الشيخ مسعود ورث له الطريقة المدينية ،و نصحه بالعودة الى بلده و بناء زاوية بها تكون منارة للاشعاع الصوفي السني. و كان ذلك في النصف الثاني من القرن 7هـ/13م، و هذا دليل ايضا على التواصل الفكري ما بين متصوفي علماء تلمسان مع علماء وصوفية قسنطينة.
والظاهر ان طريقة أبي مدين شعيب الغوت وطقوسه في مجال التصوف السني ، قد عرفها شيوخ مدينة قسنطينة وطلابها وصلحائها ، ويكون هؤلاء الشيوخ تتلمذوا عليه مباشرة أو عن طريق تلاميذه ، في مدينة بجاية ، التي أقام فيها أبو مدين فترة طويلة ، وأن بجاية لا تبعد كثيرا عن قسنطينة ، وتخضع كلتاهما للنفوذ الحفصي.
وأن كتابي » عنوان الدراية » و »أنس الفقير » رصدا لنا العديد من المراسلات و الاتصالات بين شيوخ قسنطينة وصلحائها وبين شيوخ بجاية ومتصوفيها(23) وزياراتهم الكثيرة للمدينتين.
حرص يعقوب الملاري على العمل بالكتاب والسنة والاعتناء بالجانب التربوي العملي من التصوف في زاويته ، وهي الطريقة التي سلكها أبو مدين الغوث ، التي يرى فيها بأن التصوف ليس بالرهبانية ولا بأكل الشعيرو النخالة ولا بلبس الصوف الخشن والخرقة ،وإنما يكون بالصبر على الاوامر واليقين والهداية، وهو السلوك الذي التزم به أبو مدين وأسرة ابن مرزوق في تلمسان.(24)
وقد إلتزم شيخ الزاوية الملارية ، بهذه المبادىء و الأفكار، وبما تحلى به نظام أبي مدين الغوث، حتى اصبح لزاوية ملارة وشيخها تأثير روحي كبير في قسنطينة والمغرب الادنى، فصارت قبلة للمريدين وملاذا يلجؤون اليها وقت الشدائد يحتمون بشيخها وببركاته ودعواته (25).
وكذلك وضح لنا ابن قنفذ الخطيب المكانة التي كان يتمتع بها والد جده يعقوب وجده يوسف بن يعقوب ( 764/1360) بسبب الاعتقاد فيهما لانهما ينتميان الى طريقة أبي مدين الغوث،و ارتباط أغلب صوفية قسنطينةو بجايةبها عن طريق التتلمذ أو الأخوة في الطريقة، لأن أبا مدين الغوت مكث نحو 15 سنة ببجاية وهو الأمر الذي جعل العلاقة متينة بين زاوية ملارة بفرجيوة التي تبعد عن قسنطينة بمرحلتين و لكن صاحبها كان يتنقل ما بين ملارة وقسنطينة دائما ، لأن ابنته تزوجت من حسن بن قنفذ( ت 750هـ/1350م) والد ابن قنفذ الخطيب (810هـ/1347م)وزاوية العباد بتلمسان حيث كان الشيخ يوسف يعقوب الملاري( ت 764/1360) كثير التردد على ضريح ابي مدين ،وهو ما جعل الشيخ ابو العباس بن مرزوق( 741/1341) القائم على ضريح العباد، يهدي للزاوية الملارية جزءا من عكاز أبي مدين كعربون لهذا الانتماء وللصلة الوثيقة بينهما.(26)
ان مكانة الولي يوسف بن يعقوب الملاري عند سلاطين بني حفص وسلاطين بني زيان جعلت السلطان الحفصي أبو يحي أبو بكر(718-747/1318-1343) يكلفه بمهمة دبلوماسية الى البلاط التلمساني، للقاء السلطان الزيانيأبي حمو موسى الأول ( 707-718/1307-1318) و قد قام بهذه المهمة على أحسن ما يرام، إذ تمكن الشيخ الملاري، من ابرام معاهدة هدنة وسلم وحسن الجوار، بين الدوليتين الجارتين مدتها عشر سنوات(27)، وهذا دليل واضح على العلاقة المتينة بين رجال التصوف ورجال الحكم والسلطة، فتعدى بذلك من التعاون الثقافي والفكري الى التعاون السياسي والدبلوماسي.
فقد كانت لشيخ زاوية ملارة ، علاقات عديدة و متنوعة مع العلماء والصلحاء والأمراء والسلاطين في قسنطينة وتونس و بجاية و تلمسان، تدل على اتساع دائرة شهرته العلمية والروحية والصوفية وكثرة الاعتقاد فيه.
وكان الخطيب ابن قنفذ القسنطيني(810هـ/1407م)حفيد الملاري يوسف بن يعقوب(ت 764هـ/1363م)قد تأثر بثقافة جده الصوفية وتتلمذ عليه لأنه كفله بعد وفاة والده ، وعلمه منذ نعومة أظفاره علوما شتى، فتعلق الصبي بجده تعلقا شديدا ، فأظهر ابن قنفذ نجابة كبيرة في هذا الميدان.
أهلته الى الرحلة نحو المغرب الاوسط و الأقصى، عكس أقرانه الذين كانوا يتوجهون الى بجاية وتونس والمشرق الاسلامي للاستزادة من العلوم و المعارف، والالتقاء بالأولياء الصالحين ، والوقوف عند أضرحة المتوفين منهم ، فقصد مدينة تلمسان عاصمة بني زيان والتقى بعلمائها ، ووقف عند ضريح وزاوية شيخها أبي مدين بالعباد، وتبرك به ، ولاسيما وأن علاقة طيبة وروحية تربط بين جده الملاري وأسرة ابن مرزوق بتلمسان القائمين على ضريح أبي مدين الغوث وخطباء مسجد العباد ، وقد استغرقت جولته السياحية والعلمية ما يزيد عن ثمانية عشر سنة ، التقى خلالها بأقطاب التصوف ولبس الخرقة بيدهم.
فكان كثير التردد على مدينة تلمسان في غذوه ورواحه ورحلاته المتعددة نحو فاس وسلا وأغمات ودكالة، استقر بمدينة تلمسان مدة من الزمن سنة 776/1373م ، بسبب المجاعة التي اجتاحت المغرب الاسلامي، اتصل خلالها بالمجالس العلمية والصوفية التي تقام بتلمسان وشارك فيها.(28)
فقد وقف كثيرا أمام ضريح ابي مدين الغوث بعباد تلمسان ، يتبرك به ، و يتضرع امام مقامه و في ذلك يقول : » فلجأت الى قبر أبي مدين و ركعت هناك ما قدر لي ثم قرأت جملة من القرآن ، ثم أخذت في التسبيح و التهليل في نفسي ، حتى رق قلبي و اجتمع خاطري ، فاستغفرت اليه و صليت على النبي صلى الله عليه و سلم ثم قلت : يا سيدي أبا مدين نحن أضيافك ، و قد نزلنا بجوارك و لنا معك وسيلة عهد و سند متصل قريب غير منفصل، و الغرض تسيير الانتقال و الحفظ في كل الاحوال »(29).
كما التقى بالمتصوفة التلمسانية الشهيرة بالصالحة بفاس و بتلمسان ، فكانت هذه الأخيرة تجالس كبار الفقهاء و مجادلتهم في مسائل فقهية عديدة و كانت تعكف لقراءة القرآن الكريم و على زهد و تقشف وعبادة و ورع ،و كان مجلسها يضم الفقيه العالم محمد المقري و الشريف التلمساني ، و ابن قنفذ الخطيب القسنطيني و يقول عنها هذا الاخير : « أنها كانت تطلعني على آداب دقيقة و تنبهني ما انتفع به »(30).
و كان ابن قنفذ قد رصد في كتابه الموسوم » أنس الفقير و غز الحقير في رحالات التصوف كأبي مدين و أصحابه »، معتبرا شخصية أبي مدين الدافع الأساسي لوضع هذا الكتاب.(31)
و قد دخلت حلقات الدرس بمدينة قسنطينة، مؤلفات مشرقية و أندلسية و تلمسانية كثيرة، اعتمدها الطلاب في دراستهم و أبحاثهم منها كتب ابن مرزوق الخطيب و حفيده محمد ، و كتب ابن أبي حجلة التلمسانيوقصائده في الشعرالصوفي، و هو الأمر الذي جعل الثقافة في قسنطينة و تلمسان تعتمد على رافدين هامين ، رافد المشرق و رافد الأندلس ، فضلا عن الجهاز العلمي والثقافي المحلي في المدينتين ، فنتج عن ذلك تكوين كوكبة من الأساتذة والعلماء تميزوا بغزارة التحصيل و عمق التفكير ، حتى أصبحوا حجة في الفقه و التفسير وعلى رأسهم أبو اسحاق التنسي ، و في علم أصول الدين والنحو والأدب والتاريخ ومنهم ابن هدية و ابن خميس و المقري و ابنا الامام و الشريف الحسني من تلمسان، وأبو على بن لفكون وعبد الكريم بن لفكون أيضا والخطيب ابن قنفذ القسنطيني ، وأبو على حسن بن باديس 787/1385م وغيرهم كثيرون اصبحوا حجة في الفقه و التفسير و الاصول والنحو و الادب و التاريخ و علوم عقلية اخرى.(32)
غير أن الجدير بالذكر و من خلال المعطيات السابقة نجد ان علماء تلمسان قد زاروا قسنطينة ودرّسوا بها و تولّوا بعض المناصب فيها مثلالإفتاء و القضاء، بينما علماء قسنطينة أغلب وجهتهم كانت نحو بجاية و تونسو الشرق أكثر من وجهتهم نحو الغرب بحكم موقعها بين القطبين الثقافيين تونس وبجاية فقد رصدت لنا المصادر عينات كثيرة لقسنطينيين استقروا في مدينة بجاية و تونس عاصمة بني حفص تولوا مناصب عديدة في هذه الحاضرة من قضاء و افتاء و كتابة و تصدروا التدريس والخطابة في مساجدهاو مدارسها وكذلك منهم من طاب لهم العيش في الديار المصرية و الحجازية فاستقروا بهذه الربوع خلال العصور الوسطى.
لم تتوقف المراسلات بين علماء قسنطينة و علماء تلمسان ، تتضمن المسائل الفقهية و الادبية واللغوية و هي رسائل توجهت لكبار علماء تلمسان مثل أبنا الإمام و محمد بن مرزوق الحفيد و الشريف الحسني وأبو العباس أحمد المقري التلمساني (1041 هـ)في العهد الزياني وغيرهم.
فقد راسل أبو عبد الله محمد بن باديس في القرن 11/17م أبا العباس احمد المقري التلمساني ، صاحب كتاب » نفح الطيب » ، يستفسره في قضايا لغوية و عند لقائه بالديار المصرية توسع معه في المسائل الفكرية و اللغوية ، و أخذ عنه الكثير حسب منشور الهداية.(33)
و ظل الاتصال الديني و الثقافي و الروحي بين تلمسان و قسنطينة متواصلا و قائما عبر العصور المختلفة ففي العهد العثماني كانت زاوية تقوم بوظائفها الدينية و التعليمية و الثقافية بمدينة قسنطينة ، تحمل اسم أحد الشيوخ التلمسانيين الذين استقروا بهذه المدينة و هي زاوية الشيخ سيدي علي التلمساني(34).
أما الصلات الثقافية و العلمية بين تلمسان و قسنطينة خلال القرنين 19 و 20 ، فقد وضحتها بعض الوثائق يمكن أن نستخلص منها بعض الفعاليات الثقافية آنذاك.
عبد القادر المجاوي:
فقد ظهرت في مدينة قسنطينة شخصية فذة نادت بالاصلاح و كرست حياتها للتدريس من اصول تلمسانية ، إستفادمنه أهلها ، هذه الشخصية هي : عبد القادر المجاوي 1848-1914م ، و هو علم من أعلام الجزائر ، كانت له بصمات في الحركة الثقافية و تأثيرات هامة في النهضة و الحركة الاصلاحية في الجزائر ، ولد بتلمسان عام 1848م ، ينتمي الى أسرة تلمسانية عريقة في العلم و ممارسة القضاء ، فقد كان والده محمد بن عبد الكريم المجاوي ، قاضيا بتلمسان لمدة زادت عن خمس و عشرين سنة (25)، فنشأ عبد القادر في هذا البيت الشريف نشأة علمية،و لما عيّن والده قاضيا على طنجة ، نقله من محيطه الإجتماعيالفاسد في طنجة الى الدراسة في مدينة تطوان،المدينة التي تهيمن عليها التطهرية الصارمة للريفيين،ثم دخل جامع القرويين للتزود من معارف وعلوم كبار شيوخها،بفاس نذكر منهم محمد العلوي قاضي مدينة فاس،ومحمد كنون ومحمد بن سودة وجعفر الكتاني،ثم ذهب الى مدينة دمشق ، لإتمامدراسته ،وارتبط بعائلة الأمير عبد القادر ارتباطا وثيقا. و في سنة 1869 م عاد الى وطنه الجزائر واستقر في مدينة قسنطينة ليشارك بعض أقاربه من طنجة وخاصة عائلة بوطالب ،حيث استقرت هي الأخرى في مدينة قسنطينة في الستينات من القرن 19م ،فتزوج منها عبد القادر المجاوي ولعل هذا يفسر مجيء المجاوي الى مدينة قسنطينة،ففتح بها مدرسة سنة 1870 وهو ما جعل أهل قسنطينة يفرحون به و يحتضنونه ،فصار ينظم مع القاضي المكي بن باديس الجلسات العلمية وينسقا مع بعضهما البعض،للحفاظ على الهوية العربية الإسلامية وتطويرها والدفاع عن القضاء الإسلامي في الجزائر،وسرعان ما أصبح عبد القادر المجاوي محل تقدير من قبل القسنطينيين، وفي نفس الوقت مزعجا للإدارة الفرنسية، لأنه كان يدرس في مساجدها العلوم الشرعية ،واللغة العربية ،وقد حاولت الإدارة الفرنسية أن تجلبه الى صفها بتعيينه مدرسا في جامع الكتانية سنة 1873، ثم مديرا للمدرسة الرسمية في سنة 1878م ، وهي المدرسة التي بناها صالح باي وحولتها السلطات الفرنسية الى مدرسة رسمية.(35)
فاستفاد منه أهل قسنطينة ، بحيث كان معلما بارعا ، استحوذ على قلوب تلاميذه بعلمه الغزير ولسانه الفصيح و منهجه المشوق و عمق ثقافته ، يعود إليه الفضل في إيقاظ روح الإصلاح و النهضة الفكرية بمدينة قسنطينة،فداعت شهرته العلمية في البلاد ، فأقبل عليه طلاب العلم والمعرفة من مختلف مناطق الوطن.
و من التلاميذ الذين حملوا أفكاره و لواءه و الذين سيكون لهم شأن كبير:العالم حمدان الونيسي، الذي انتقل الى التدريس بالمسجد النبوي بالمدينة المنورة و هو استاذ الامام عبد الحميد بن باديس، والمولود بن الموهوب المدرس بالمدرسة الكتانية ، و أستاذ المفكر الجزائري مالك بن النبي .
فكان الشيخ عبد القادر المجاوي مربيا بارعا،قدم نصائح و علوم مفيدة لطلابه، في كتاب ألفه بعنوان « إرشاد المتعلمين »تحدث فيه عن علوم اللسان و علوم الأديان و علوم الابدان ، نشره بالقاهرة سنة 1877 يحتوي على ثلاثين صفحة ،شرح فيه حالة الثقافة في الجزائر في ظل الإحتلال الفرنسي ، انتقد فيه بقسوة التخلف والإنحطاط الفكري والثقافي الذي سببه الإحتلال للجزائر وقارن ذلك بالتطور الثقافي في أوروبا والمشرق العربي،وقدم في الكتاب عدة اقتراحات للنهوض بالتعليم في الجزائر،وعلاجا للمنهج التربوي والتعليمي يعتمد على الأسلوب العصري،يركز فيه على الثقافة الدينية والعلمية ،وذكر المجاوي ،بأن العلم لا يهدد الدين ،بل مكمل له ،لأن العلوم توضح إضافي لوجود الله وعظمته، ويساهم في تطوير الحياة المادية والمدنية ،فهذه الأفكار كانت محور نقاش حاد وجاد ،حول الفكر والثقافة في الجزائر منذ دخول الإحتلالالفرنسي لها (36)،و بعد فترة قصيرة من ظهور كتاب عبد القادر المجاوي والنقاش الذي دار حوله،قام أحد المترجمين العسكريين بترجمة الكتاب وتلخيصه الى اللغة الفرنسية ووضع له عنوانا « un livre utile » في الجريدة الحكومية الرسمية التي تحمل عنوان : « المبشر » في 12 ديسمبر 1877 ،إنتقدوا فيها المجاوي اتقادا شديدا ،والظاهر أن ذلك كان بإيحاء من الوالي العام للجزائر،وكان للجريدة الكولونياليةprogrés de l’est ،التي تصدر بقسنطينة ،رد فعل قوي تجاه الكتاب ،فقد نشرت مقالا يوم 20/12/1877 بعنوان « le livre nuisible » طالب فيه بعدم تطوير اللغة العربية والثقافة الإسلامية ،وعدم دعمها ،ودعت الى دعم Bas breton et basqueبفرنسا ،وأكدت على استبدال اللغة العربية باللغة الفرنسية للجزائريين ،حتى تسهل مهام الإدارة والعدل.
ثم قامت نفس الجريدة بنشر رسائل من الجزائريين المأجورين ،يتعرضون فيها لعبد القادر المجاوي ، ويتهمونه بإهانتهم بنشر هذا الكتاب،وطالبت الجريدة ،بإدماج الجزائريين في اللغة والثقافة الفرنسية ،والذي يؤسف له فقدان المترجمين الجزائريين في هاتين الجريدتين،فقد وضع عبد القادر المجاوي كتابا بعد تشخيصه للداء في الجزائر،أيقظ به نخبة البلاد من سباتها،وعدم مبالاتها.والجدير بالذكر هو أن الإدارة الفرنسية وعلى رأسها المستوطنون ،أتهموا الأمير عبد القادر الجزائري بأنه هو الذي دفع تكاليف طبع ونشر وتوزيع هذا الكتاب نظرا للعلاقة التي كانت تربطه بالشيخ عبد القادر المجاوي(37)،كما قدم عدة كتب أخرى في علوم شتى بلغ عددها ثلاثة عشر كتابا و رسالة،ومقالات عديدة في صحف ذلك الوقت ، أشار فيها الى أن العلوم الحديثة لا تتعارض مع الايمان، بل تخدمه،و تعز الدين و تدعمه وتنميه و تعتبر أفكاره هذه هي اللبنة الاولى للنهضة الاصلاحية في الجزائر ،و خلف عبد القادر المجاوي عددا كبيرا من التلاميذ ، حملوا افكاره و ساروا على دربه ، و اتخذوا من منهجه منارا يهتدون به في جهادهم التربوي والتعليمي ،ثم انتقل الى الجزائر سنة 1898م.
و أصبح مدرسا بمدينة الجزائربمدرسة الثعالبية العليا المكلفة بتكوين القضاة و المترجمين ، ثم وسع نشاطه بداية من سنة 1908م ، خارج المدرسة الثعالبيةالى الدعوة و الإرشاد ،و ساهم في احياء اللغة العربية و العلوم الاسلامية ، و بدل جهدا كبيرا في نشر الثقافة العربية الاسلامية ، و تكوين جيل من المثقفين، صاروا كلهم نواة للوطنية و اليقظة القومية ، فربطوا حاضر الجزائر بتاريخها المجيد الحافل بالأمجاد والبطولات والانجازات الحضارية ،و تشاء الأقدار أن يتوفى عبد القادر المجاوي في قسنطينة، التي خدم فيها كثيرا بين أهلهو تلاميذه في 26/09/1914م أثناء زيارته لها و كانت له نشاطات مكثفة في هذه الزيارة ، و لهذا فقد شككوا في أن موته لم يكن طبيعيا ، و يشير تلميذه ابراهيم أطفيش (1886-1965م) بأنه تعرض للإغتيال من طرف المخابرات الفرنسية ، بحيث وضعت له و لثلاثة عشر عالما جزائريا السّمّ في القهوة فمات لتوه.(38)
كما شككوا فيما بعد في مقتل الامام عبد الحميد بن باديس ، و نحن لا يمكننا الجزم في ذلك لأن الوثائق تعوزنا ، غير أن هذه الأفعال غير بعيدة عنسلوكات الادارة الفرنسية و اجهزتها المختلفة ، وليست غريبة عنها هذه الأفعال للتخلص ممن يضايق وجودهم في الجزائر.
و قد أمّ صلاة الجنازة تلميذه الشيخ أحمد الحبيباتي و أبّنه تلميذه الشيخ المولود بن الموهوب مفتي الديار القسنطيني .
و ألقى بالمناسبة الامام الشيخ عبد الحميد بن باديس خطبة مؤثرة أبّن فيها شيخ استاذه جاء فيها : »أيها الامام الذي ببزوغ شمسه تمزقت سحب الجهل، و بدت غرة القلم المعين ، أنت الذي عانيت في سبيل إصلاحنا أتعابا طويلة …كنت مثالا لحسن الأخلاق و كرم الطبع ، و لباب الفضيلة…نبكيك بالدموع ، و يبكيك القرطاس و القلم ، نبكيك و تبكيك المنابر و دروس العلم و الحكم ، نبكيك ويبكيك هذا القطر الحزين ، الذي غمرته بيض أياديك و غرر فضائلك الحسان ، و قد حان أن أودعك و عزيز على وداعك وداعا يعقبه اللقاء إن شاء الله في جنان الرضوان ،أرجع الى ربك راضيا مرضيا مثنيا عليك بكل لسان مهديا لك الفوز بالخلد في أرقى فراديس الجنان ».و ختم العلامة ابن باديس تأبينه بقصيدة طويلة نقتطع منها ما يلي :
ألا إن هذا الدهر ذو فتكات و إنا لنا في طيه لعظــــات
له عصميات في النفوس فلو رمـى * بها الراسيات صرن منخفضـات
و كم قد رماها فاصطبرنا لرميــــه * الى أن رمى بأعظـم النكبات(39)
ابن باديس و تلمسان :
أما الشخصية الثانية من الأسرة الباديسية التي كان لها اتصال بمدينة تلمسان فهي الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس الذياختار لتلمسان شخصية علمية مرموقة هي الامام محمد البشير الإبراهيمي ، نائبه في جمعية العلماء المسلمين ، لغزارة علمه وفصاحة لسانه وسداد رأيه وقوة حجته وشجاعته في مواقفه.
فكان الامام الابراهيمي في تلمسان يقوم بحركة واسعة ، تفاعل اهل تلمسان مع مشروعه الاجتماعي و الثقافي ، كما تفاعل أهل قسنطينة بمشروع عبد الحميد بن باديس الذي يتضمن بذور نهضة اصلاحية وتربوية .
لم يتأخر التلمسانيون في السعي لبناء مدرسة حرة تكون منارة علمية وفكرية اسلامية و حصنا للغة العربية في مدينتهم ، فأسسوا مدرسة جميلة أطلق عليها اسم » دار الحديث » فكانت هذه المدرسة فريدة من نوعها وليس لها نظير في القطر الجزائري آنذاك، شيدت على نمط معماري هندسي تلمساني أصيل، وهي عبارة عن مجمع تربوي ديني ثقافي .
لعل أحسن احتفال شهدته الجزائر وأروعه هوالاحتفال بفتح هذه المدرسة بتلمسان يوم 22 رجب 1356 الموافق ليوم 27 سبتمبر 1937 فكان الاحتفال جميلا في مظهره، ولطيفا في أسلوبه وبديعا في مناسبته ودقيقا في تنظيمه وفي علو الطبقة التي شاركت فيه، وشاهدت مراسيمه، وتكلمت على منبر المدرسة، من العلماء ورجال السياسة والشعراء وأهل الفكر وصفته جرائد ذلك الوقت وصفا دقيقا، واهتمت به اهتماما كبيرا، وحشد له التلمسانيون، الإمكانيات المادية والمعنوية الضخمة، رغم مضايقات الإدارة الفرنسية واستفزازات المخابرات وتهديدات رجالها.(40)
وقد اختارت الجمعية الدينية لمدينة تلمسان أن تدوم الاحتفالات بهذه المناسبة يومين كاملين، 27 و28 سبتمبر 1937م، وتزامن الاحتفال مع نهاية انعقاد مؤتمر جمعية العلماء المسلمين في الجزائر العاصمة لتجديد إدارتها، حضره ما يزيد عن 5 آلاف مشارك من المعلمين وأنصار الجمعية ومحبيها، وكان الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، قد بشر المؤتمرين بهذا الحدث الهام، وتحديد يوم التدشين، وأخبرهم بطموح أهل تلمسان لنشر مبادئ الجمعية وأهدافها، والتفاني في خدمة الإسلام واللغة العربية ووجه لهم دعوة باسم سكان مدينة تلمسان، الذين يتشوقون ويتشرفون بأن يكون الافتتاح الرسمي لهذه المدرسة بيد الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس . وقال في هذا الصدد: »لقد حملني إخوانكم التلمسانيون أمانة يجب علي أن أبلغها إليكم، وهي أنهم يسلمون عليكم، ويعاهدونكم على التفاني في خدمة الجمعية ونشر مبادئها، ويبشرونكم بأنهم شيدوا للإسلام والعربية معهدا، لم يكن له نظير، في تاريخ الجزائر الحديث، كما انهم يتشوقون ويتشرفون، أن يكون فتح هذا المعهد لأول مرة بيد علامة الجزائر، وزعيم نهضتها الأستاذ عبد الحميد ابن باديس ».(41)
فكان يوم الافتتاح « عرسا علميا » تجلت فيه الأخوة الإسلامية والنخوة العربية حسب تعبير الإبراهيمي.(42)، فكان يوما مشهودا اتضحت فيه تطلعات الأهالي للثقافة الإسلامية والعلم فكان فيه روح التعاون والتكافل في ابلغ صوره،واعتبروه من اسعد أيام تلمسان وأبهجها، جاءته الوفود من مختلف مناطق الوطن، فرحة مستبشرة بهذا الإنجاز الذي لم يعهدوه منذ زمن بعيد.(43)
وصل المجلس الإداري لجمعية العلماء بقيادة رئيسها الشيخ الإمام عبد الحميد ابن باديس صبيحة يوم الاثنين 27 سبتمبر 1937، إلى محطة تلمسان للسكك الحديدية، قادما من الجزائر العاصمة وكان في انتظار الوفد الشيخ محمد البشير الإبراهيمي وعلية القوم ووجهاء المدينة ونخبتها، وحشد كبير من ابناء تلمسان والضيوف فاستقبلوا الوفد بالورود والزهور وبالترحيب الحار، تقدم ابن الشيخ الإبراهيمي محمد الطفل، فألقى أمام الإمام عبد الحميد بن باديس كلمة ترحيبية لطيفة، باسم أطفال تلمسان عبر فيها عن شعور أبناء المدينة الطيب والفياض نحوالشيخ الإمام ونحوجمعية العلماء ومجلسها الإداري.(44)
خرج الوفد من المحطة راجلا يتقدمهم الشيخ الإمام عبد الحميد ابن باديس بين صفين طويلين متراصين من الجماهير الغفيرة تعد بآلاف (نحوعشرين ألف) من أبناء تلمسان والضيوف جاءت للترحيب بزعيم النهضة الجزائرية الحديثة وبالعلماء فكان الاستقبال استقبال الزعماء، تأثر ابن باديس له تأثرا عميقا.وكانت الجماهير منظمة تنظيما محكما ومنسقا، وحناجرها تهتف بحياة جمعية العلماء وبرجال العلم، وتكبر وتسبح لله، متحدية بذلك الإدارة الفرنسية وأعوانها، فكانت أصواتهم مؤثرة تصل إلى أعماق الوجدان وكانت النسوة تولولن وتزغردن من وراء الحجاب .(45)
ولما وصل الوفد إلى مدرسة « دار الحديث » تقدم الشيخ البشير الإبراهيمي باسم أهل تلمسان وسكانها وباسم الجمعية الدينية التلمسانية بكلمة وجيزة عبر فيها للامام عبد الحميد بن باديس عن امتنانهم لحضوره ومشاركته في هذا الحفل، واخبره بان التلمسانيين يرغبون في ان يكون فتح المدرسة بيده، ففتحها الشيخ الإمام ابن باديس باسم الله وباسم الإسلام والعروبة والعلم والفضيلة كما جاء على لسانه.(46)
دخل الشيخ الإمام والوفد المرافق له المدرسة مبتهجا مسرورا فتفقد الأقسام والطوابق، معجبا، بطراز المدرسة وهندسته، وهوالنمط التلمساني الأصيل، الذي أقبره الاحتلال أوكاد يقبره ويطمسه.
تقع المدرسة في مكان مجاور للشيخ الإمام البرادعي، صاحب كتاب التهذيب والإمام القدير الشهير محمد بن أحمد بن صعد التلمساني، وبالقرب من دار الباي، ومجاور للثانوية الفرنسية، فكان موقعها إستراتيجي وهام حافل بالطلاب والزوار.(47)
وكانت الجماهير الغفيرة تحيط بالمدرسة وملتفة حولها ورؤوسها مشرئبة، تريد الاستماع إلى كلمة الشيح الإمام عبد الحميد بن باديس ورؤيته . فأطل عليهم من شرفة المدرسة، وهو فرح مسرور بهذا الصرح العلمي التربوي الديني، ومتأثرا بحفاوة الاستقبال. وخاطبهم بكلمة رقيقة بليغة نابعة من القلب، عبر فيها عن اغتباطه بوجوده في تلمسان وبين أهلها قائلا: »يا أبناء تلمسان ويا أبناء الجزائر، إن العروبة من عهد تبّع، إلى اليوم تحيّيكم، وأن الإسلام من يوم محمد صلى الله عليه وسلم إلى اليوم يحيّيكم، وأن أجيال الجزائر من اليوم، وإلى يوم القيامة، تشكركم وتذكر صنيعكم، يا أبناء تلمسان، كانت عندكم أمانة من تاريخنا المجيد، فأديتموها، فنعم الأمناء أنتم، فجزاكم الله جزاء الأمناء ».(48) وهي كلمة صادقة نابعة من القلب تبين ما يشعر به الإمام نحوتلمسان وأبنائها،وهي شهادة صريحة واعتراف واضح من الإمام، بما قدمه أهل المدينة للعروبة والإسلام ماضيا وحاضرا.
وكان الإمام يكن معزة خاصة لتلمسان، ومحبة متميزة في وجدانه، وهوى فياض في قلبه، ولهذا كان يزورها في كثير من المناسبات،والتردد عليها، وكان يشعر بانشراح في صدره ونشاط في فكره وغبطة في قلبه أثناء زيارته لها.
ويتضح ذلك من خلال خطاب ألقاه أمام طلاب الزيتونة وعلمائها في تونس سنة 1937م، جاء فيه. « حقا إن لتونس هوى روحيا بقلبي لا يضارعه ولا يضاهيه، إلا هوى تلمسان، اعرف ذلك من انشراح في الصدر، ونشاط في الفكر، وغبطة في القلب، لا احد مثلهما إلا في ربوعهما (تونس وتلمسان)، ومن نعم الله علي في العهد القريب أن يسر لي التردد بين الخضراء(تونس) والبهجة(تلمسان) مرتين ».(49)
و بمناسبة افتتاح مدرسة الحديث بتلمسان كما أسلفنا رافق الاستاذ الشيخ محمد خير الدين الامام الشيخ عبد الحميد بن باديس الى المنصورة حيث توجد أطلال مسجدها ، أين حرر نداءا يدعو فيه سكان قسنطينة خاصة و الأمة الجزائرية على وجه العموم مقاطعة الاحتفال الفرنسي بالذكرى المئوية لاحتلال مدينة قسنطينة و عدم المشاركة فيه ، و التزامهم به جاء فيه : » في مثل هذا اليوم منذ قرن مات أجدادكم المجاهدون المدافعون و الفرنسيون في ميدان البطولة و الشرف ، و طويت صفحة من التاريخ على شهادته بالشجاعة و التضحية للغالب و المغلوب. و مضت مائة سنة كانت كافية لنسيان تلك المأساة و ضمد تلك الجروح و تقريب السكان المجاورين من بعض، لكن قوما من الأنانيين (الفرنسيين) الذين يأبون إلاأن يكونوا سادة متفوقينو أن يشعروا المسلمين بسلطة الغالبين (المعمرين) على المغلوبين(الجزائريين) هؤلاء القوم أرادوا في هذه الأيامأن يقيموا احتفالات عسكرية بمدخل مدينة قسنطينة تثير العواطف، و تمس كرامة الأحياء مناو الأموات.. »
» يحتفلون و مطالب الشعب الجزائري معرقلة و معطلة و حقوقه مهملةو سوط القوانين الاستثنائية نازلة على ظهره كل يوم »
و لهذا فقد اجتمعت (14) أربعة عشر جمعية اسلامية من جمعيات قسنطينة يوم 18 سبتمبر 1937م في نادي الاتحاد ، و كانت كلها مستنكرة لهذه الاحتفالات عازمة على مقاطعتها،و كما قام المؤتمر الاسلامي باحتجاجه لهذه الاحتفالات و قدم عريضته للوالي العام، وقدم مكتب لجنة قسنطينة الى رئيس بلدية قسنطينة .
وفعلت نفس الشيء الجمعيات الإسلامية القسنطينية، فقامت بواجبها، « وإني كقسنطيني أقوم بنشر هذا النداء، فما بقي منكم إلاأن تقوموا أنتم بواجبكم وهو مقاطعة هذه الاحتفالات »(حرر بالمنصورة حوز تلمسان يوم 28/09/1937).(50)
و لما قرأ الشيخ الامام النداء على رفقائه بالمنصورة، جعل أحد تلامذته يثبط عزيمته و يحذره مغبة نشره، فغضب الامام عبد الحميد بن باديس وقال: »يا أبنائي انكم تعلمون اني لم اطلب أي شيء لنفسي ، ولكني اليوم أطلب لنفسي شيئا واحدا وهو أن تسمحوا لي أن أكون أول ضحية في سبيل الجزائر عندما يحين الوقت للتضحية في سبيلها » ثم التفت الى ضيفه ورفيقه الاستاذ ابراهيم الكتاني الذي حضر مؤتمر المعلمين وافتتاح دار الحديث ، قادما من المغرب الاقصى، قائلا له: « هنيئا لكم انكم تجدون في المغرب السبيل للتضحية في سبيل بلادكم ، أما نحن في الجزائر فاننا نحترق على التضحية في سبيلها و لا نجد للتضحية سبيلا »(51).
و كان اليوم الاول من الاحتفال مخصص للخطب والدروس بحيث ارتجل الامام محمد البشير الابراهيمي خطبة ساحرة ، ثم قام الامام الشيخ عبد الحميد بن باديس بإلقاء درس في الحديث النبوي الشريف.
و في الليل تحدث الشيخ مبارك الميلي والشيخ العربي التبسي في درسين هامين الاول عن الحديث والثاني عن التفسير وختم الجلسة الشاعر محمد العيد آل خليفة بإنشاء قصيدة كلها عيون وغرر.(52)
وقد ظل أهل تلمسان على العهد يواكبون، نشاط جمعية العلماء المسلمين وفي غيرها من المدارس والنوادي، ويساهمون في توعية مجتمعهم، بنخبهم وحضور التظاهرات الثقافية التي تديرها جمعية العلماء، في تلمسان وفي الحواضر الجزائرية الأخرى، فقد شاركوا آهل قسنطينة بجوارحهم وبحضورهم بوفد هام يزيد عدده عن أربعين تلمسانيا، في الاحتفال الذي دام أربعة أيام، أقامته جمعية العلماء المسلمين بمدينة قسنطينة سنة1938م، بمناسبة ختم الشيخ عبد الحميد بن باديس، تفسير القرآن الكريم بمسجد سيدي الأخضر، والذي استغرق فيه نحو »25سنة » كاملة.
وتقدم الوفد التلمساني يوم التكريم بتقديم هدية عميقة في معناها ثمينة في جوهرها للأستاذ المفسر، وهي عبارة عن محفظة كتب عربية مصنوعة من الجلد الجيد، سُرَّ بها الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس سرورا كبيرا، وصارت هذه المحفظة رفيقة دربه في تجواله وترحاله، ولا تزال المحفظة مع جملة من الآثار المادية والفكرية التي تركها الشيخ الإمام في بيت أخيه عبد الحق بن باديس بقسنطينة إلى اليوم مع مجموعة من الكتب والوثائق، محفوظة في منزله.(53)
الخـــــــــاتمة
تعد كل من مدينتي قسنطينة و تلمسان،من المدن العريقة في الجزائر عرفتا الاستقرار البشري منذ آلاف السنين قبل الميلاد،خضعت كل منها للاحتلال الروماني و الوندالي و البيزنطي و دخلتا دائرة الاسلام مع طلائع ابي المهاجر دينار و عقبة بن نافع.ومتنذ ذلك الوقت عرفت كل منهما صلات ثقافية و فكرية،و مثاقفة صوفية خلال العصر الوسيط.ساهم فيها علماء من قسنطينة و من تلمسان.ولاسيما منها البيوتات العريقة في الدين و العلم و التصوف.و كانت الزيارات متبادلة بين العلماء لكلتا المدينتين.لأن قسنطينة تعد محطة و معبرا للطلاب و العلماء و الحجاج،و أن تلمسان كانت مشتلة للعلم و التصوف.
فقد حط رحاله بمدينة قسنطينة الشيخ المتحدث ابو محمد عبد العزيز بن مخلوف التلمساني،فدرس بها علم المعقول و المنقول كما زار محمد بن احمد بن مرزوق الخطيب رفقة والده و السلطان ابي الحسن و ابي عنان عدة مرات،و انتقل اليها العالم محمد المقري و الشريف التلمساني الذي عين قاضيا فيها.
و كان رجال التصوف بقسنطينة،على اتصال دائم مع رجال التصوف بتلمسان و لاسيما منهم الشيخ يعقوب و ابنه يوسف بن يعقوب الملاري صاحب زاوية ملارة و حفيدهما ابن قنفذ الخطيب،لإنتمائهم الى الطريقة المدنية و توجد زاوية بمدينة قسنطينة تحمل اسم شيخها مبدي علي التلمساني.
و استمر التواصل بين علماء قسنطينة و علماء تلمسان حتى في العهد العثماني بحيث كان ابو عبد الله محمد بن باديس يراسل ابا العباس احمد المقري التلمساني في قضايا فكرية و لغوية.
أما في عهد الاحتلال الفرنسي ،انتقل العالم القدير عبد القادر المجاوي التلمساني الى مدينة قسنطينة و استقر بها مدرسا و باعثا لبذور النهضة الفكرية و العلمية و الإصلاحية كان رائد النهضة الاصلاحية و العلمية الإمام عبد الحميد بن باديس،كثير الزيارة لتلمسان،التي كانت لها مكانة في نفسه و وجدانه، و لاسيما تلك التي دشن فيها « دار الحديث ».و كتب منها بداء لأهل قسنطينة خاصة وأهل الجزائر عامة لمقاطعة الاحتفالات بالذكرى المئوية لاحتلال قسنطينة.
المصادر و المراجع
1-ابن خلدون عبد الرحمان:المقدمة تحقيق حجر عاصي منشورات كلية الهلال مطبعة المعارف بيروت 1991.
2-ابن قنفذ القسنطيني:الفارسية في مباديء الدولة الحفصية تقديم محمد الشاذلي النيفر و عبد المجيد التركي دار التونسية للنشر تونس 1986.
3-ابن قنفذ القسنطيني: الوفيات تحقيق عادل نويهض الكتاب التجاري بيروت 1971.
4-ابن قنفذ القسنطيني: انس الفقير و اعز الحقير،نشره و صححه محمد الفاسي و ادولف فور منشورات المركز الجامعي الرباط 1965.
5-ابن عبد الحكم:فتوح افريقية و الاندلس،دار الكتاب اللبناني بيروت 1964.
6-ابن مرزوق الخطيب:المجموع مخطوط الخزانة العامة بالرباط تحت رقم 20.
7-التنبكتي ابو العباس احمد بابا:نيل الابتهاج بتطريز الديباج،تحقيق على عمر مكتبة الثقافة الدينية القاهرة 2004.
8-السخاوي شمس الدين:التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة،تحقيق اسعد طرابزوني،مطبعة دار الثقافة القاهرة 1979.
9-لفكون عبد الكريم:منشور الهداية في كشف حال من ادعى العلم و الولاية،تحقيق ابو القاسم سعد الله ،دار الغرب الاسلامي بيروت 1987.
10-ابو العباس:دعامة اليقين في زعامة المتقين تحقيق احمد التوفيق مطبعة المعرف الرباط 1980.
11-الغبريني ابو العباس:عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية،تحقيق رابح بونار الشركة الوطنية للطاعة و النشر الجزائر 1981.
12-الابراهيمي احمد طالب:مذكرات جزائري دار القصبة للنشر الجزائر 2007.
13-آثار الامام محمد البشير الابراهيمي ،جمع و تقديم احمد طالب الابراهيمي دار الغرب الاسلامي بيروت 1997.
14-بونابيالطاهر:الحركة الصوفية في المغرب الاوسط خلال القرنين 8 و 9 هـ/14-15م دكتوراه باشراف الدكتور عبد العزيز فيلالي كلية العلوم الانسانية جامعة الجزائر 2008.
15-الحفناوي ابو القاسم:تعريف الخلف برجال السلف مؤسسة الرسالة تونس 1985.
16-دحدوح عبد القادر:مدينةقسنطينة،محطات و معالم تاريخية بقسنطينة قسنطينة 2010.
17-العامري نلليسلامة:الولاية و المجتمع تقديم الدكتور هشام جعيط جامعة منوبة تونس 2001.
18-فيلالي عبد العزيز :مدينة قسنطينة تاريخ- معالم –حضارة ،دار الهدى عين مليلة 2007.
19-فيلالي عبد العزيز : تلمسان في العهد الزيانيموفم للنشر و التوزيع الجزائر 2002.
20-فيلالي عبد العزيز : دراسات في تاريخ الجزائر و الغرب الاسلامي دار الهدى عين مليلة 2012.
21-عويمرمولود:الشيخ المجاوي استاذ الجماعة ،مجلة الوعي عدد3-4 افريل ماي الجزائر 2011.
22-مجلة الشهاب المجلدان 13 و 14.
23-نداء الامام عبد الحميد بن باديس لسكان قسنطينة منشور يوم 28/09/1937.
الهـــــامش :
Commentaires récents