الباب الخامس من الفتوحات المكية
في معرفة أسرار بسم الله الرحمن الرحيم والفاتحة
من وجهٍ مّا لا من جميع الوجوه
بسملة الأســماء ذو منظـــرين
ما بين إبقاءِ و أفناءِ عين
إلاّ بـــمن قالت لــــمن حين ما
خافت على النـــمل من الحطمتين
فقال من أضحكـــــه قولــــــها:
هل أثــــــــر يطلب من بعـــد عين ؟
يا نفس يا نفس استقيمي فقد
عاينت من نـــــــــــملتنا القبضتين
وهكذا في الحمـــد فاستثنــها
إن شئت أن تنعــــــــــــم بالجنتين
إحــداهُما من عسجــد مشرق
جـــملتــــها وأختــــــها من لُجَين
يا أُمَّ قــــــرآن العلى هل تـــرى
من جــــهة الفـــــرقان للفــرقتين
أنت لنا السبع المثاني التي
خصّ بــــــها سيـــــــدنا دون مين
فأنت مفتاح الهــدى للنـــــــهى
وخصّ من عاداك بالفـــرقتين
ولما أردنا أن نفتتح معرفة الوجود وابتداء العالم الذي هو عندنا المصحف الكبير الذي تلاه الحق علينا تلاوة حال كما أن القرآن تلاوة قول عندنا، فالعالم حروف مخطوطة مرقومة في رق الوجود المنشور، ولا تزال الكتابة فيه دائمة أبداً لا تنتهي، ولما افتتح الله تعالى كتابه العزيز بفاتحة الكتاب، وهذا كتاب أعني العالم الذي نتكلم فيه، أردنا أن نفتتح بالكلام على أسرار الفاتحة
فاتحة الفاتحة
وبسم الله فاتحة الفاتحة وهي آية أولى منها أو ملازمة لها، كالعلاوة على الخلاف المعلوم بين العلماء، فلا بدّ من الكلام على البسملة، وربّما يقع الكلام على بعض آية من سورة البقرة آيتين أو ثلاث خاصّةً تبركًا بكلام الحقّ سبحانه، ثمّ نسوق الأبواب إنشاء الله تعالى
فأقول: إنّه لمّا قدّمنا الأسماء الإلهية سبب وجود العالم وأنّها المسلّطة عليه والمؤثّر لذلك، كان بسم الله الرحمن الرحيم عندنا خبر ابتداء مضمر، وهو ابتداء العالم وظهوره، كأنّه يقول ظهور العالم بسم الله الرحمن الرحيم أي باسم الله الرحمن الرحيم، ظهر العالم واختصّ الثّلاثة الأسماء لأنّ الحقائق تعطي ذلك
فالله هو الاسم الجامع للأسماء كلّها
والرحمن صفة عامة، فهو رحمن الدنيا والآخرة، بها رحم كلّ شيء من العالم في الدّنيا
ولمّا كانت الرحمة في الآخرة لا تختصّ إلاّ بقبضة السّعادة، فإنّها تنفرد عن أختها، وكانت في الدنيا ممتزجة بولد كافراً ويموت مؤمناً، أي ينشأ كافراً في عالم الشهادة وبالعكس وتارة وتارة، وبعض العالم تميّز بإحدى القبضتين بأخبار صادق
فجاء الاسم الرحيم مختصًّا بالدّار الآخرة لكلّ من آمن
وتمّ العالمُ بهذه الثلاثة الأسماء
جملة في الاسم الله
وتفصيلا في الاسمين الرحمن الرحيم
فتحقّق ما ذكرناه،
فإنّي أريد أن أدخل إلى ما في طيّ البسملة والفاتحة من بعض الأسرار كما شرطناه
فلنبين ونقول
رمزية الباء
بسم بالباء ظهر الوجود وبالنقطة تميز العابد من المعبود
قيل للشبلي – رضي الله عنه- : أنت الشبلي ؟ فقال: أنا النقطة التي تحت الباء
وهو قولنا النقطة للتمييز، وهو وجود العبد بما تقتضيه حقيقة العبودية
وكان الشيخ أبو مدين – رحمه الله – يقول: ما رأيت شيئا إلاّ رأيت الباء عليه مكتوبة
فالباء المصاحبة للموجودات من حضرة الحق في مقام الجمع والوجود
أي بي قام كل شيء وظهر وهي من عالم الشهادة
هذه الباء بدل من همزة الوصل التي كانت في الاسم قبل دخول الباء
واحتيج إليها إذ لا ينطق بساكن فجلبت الهمزة المعبر عنها بالقدرة محرّكة عبارة عن الوجود ليتوصل بها إلى النطق الذي هو الإيجاد من إبداع وخلق بالساكن الذي هو العدم، وهو أوان وجود المحدث بعد أن لم يكن وهو السين، فدخل في الملك بالميم:{ألست بربّكم قالوا بلى} الأعراف172
بيان الفرق بين الباء والأف
فصارت الباء بدلا من همزة الوصل – أعني القدرة الأزلية- وصارت حركة الباء لحركة الهمزة الذي هو الإيجاد ووقع الفرق بين الباء والألف الواصلة
فإن الألف تعطي الذات والباء تعطي الصفة
ولذلك كانت لعين الإيجاد أحقّ من الألف بالنقطة التي تحتها وهي الموجودات
فصار في الباء الأنواع الثلاثة، شكل الباء والنقطة والحركة، العوالم الثلاثة
فكما في العالم الوسط توهّم ما كذلك في نقطة الباء
فالباء ملكوتية والنقطة جبروتية والحركة شهادية ملكية
والألف المحذوفة التي هي بدل منها هي حقيقة القائم بالكل تعالى
واحتجب رحمة منه بالنقطة التي تحت الباء
وعلى هذا الحد – أي من التّأويل الرّمزي العرفاني- تأخذ كل مسألة في هذا الباب مستوفاةً بطريق الإيجاز
فبسم و الم واحد
رمزية الألف
ثمّ وجدنا الألف من بسم قد ظهرت في {اقرأ باسم ربّك} العلق1 و{بسم الله مجراها} هود4 بين الباء والسين ولم تظهر بين السين والميم
فلو لم تظهر في باسم السفينة ما جرت السفينة
ولو لم تظهر في {اقرأ باسم ربّك} ما علم المثل حقيقته ولا رأى صورته
فتيقظ من سنة الغفلة وانتبه فلما كثر استعمالها في أوائل السور حذفت لوجود المثل مقامه في الخطاب وهو الباء
فصار المثل مرآة للسين فصار السين مثالا
وعلى هذا الترتيب نظام التركيب
وإنما لم تظهر بين السين والميم وهو محل التّغيير وصفات الأفعال
أن لو ظهرت لزال السين والميم إذ ليسوا بصفة لازمة للتقديم مثل الباء
فكان خفاؤه عنهم رحمة بهم إذ كان سبب بقاء وجودهم {وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلاّ وحيًا أو من وراء حجاب أو يُرسل رسولا} الشورى15 وهو الرسول
فهذه الباء والسين والميم العالم كله
عمل الباء في الميم
Trackbacks / Pingbacks