أبو مدين شعيب

في كتاب « أنس الفقير وعز الحقير »

لابن قنفد القسنطيني

أنّ الشيخ العارف المحقّق الواحد القطب أبا مدين، نفع الله به، هو شعيب بن حسين الأنصاري الأندلسي الأصل من أحواز إشبيلية.

كان زاهدًا في الدنيا، عارفا بالله تعالى، وخاض بحاراً من الأحوال، ونال من المعارف الربانية الآمال. ومقامه الخاص به الذي لا يلحقه فيه أحد، التّوكّل على الله تعالى.

وكان له بسط وقبض. فبسطه بالعلم، وقبضه بالمراقبة.

ولمّا توفيّ أبوه، كلّفه إخوته رعي مواشيهم لأنّه أصغرهم سنًّا. فكان يخرج بها إلى المرعى. فإذا رأى مصليا أو قارئًا دنا منه ووجد في نفسه غمًّا عظيمًا من كونه لا يفعل مثله. فيحدّث إخوته ما يجده فينهونه ويأمرونه بالاشتغال بالرعاية حتّى اشتدّ غمّه لذلك وقويت عزيمته على سلوك هذه المسالك. فترك الماشية وفرّ طالبا لما مالت إليه نفسه بتوفيق الله. فردّه أحد إخوته وهدّده بالحربة. ثمّ قوي عزمه وفرّ بالليل. فأدركه بعض إخوته وسلّ عليه السّيف وضربه. فتلقى الضربة بعود كان بيده، فتكسّر السيف أجزاء. فعجب أخوه من ذلك وقال له: » يا أخي اِذهب حيث شئت ».

قال الشيخ أبو مدين: {فسرت حتّى وصلت البحر ووجدت خيمة فيها ناس. فخرج إليّ منها شيخ فسألني عن أمري. فأخبرته. فجلست عنده. فإذا رجعت رمى بخيط في طرفه مسمار. فأخذ حوتا ويطعمه لي مشويا. ثمّ قال لي: -انصرف إلى الحاضرة حتّى تتعلّم العلم ؛ فإنّ الله تعالى لا يعبد إلاّ بالعلم. قال: فخرجت إلى العدوة، ونزلت بطنجة، وانصرفت من هنالك إلى مراكش وقصدت جماعة الأندلس. فكتبوا اسمي في زمام الأجناد. فقلت لبعضهم: إنّما جئت للقراءة. فقال لي: عليك بفاس. فسرت إليها زلازمت جامعها ورغبت من علمني أحكام الوضوء والصلاة، ثمّ سألت عن مجالس العلماء. فسرت إليها مجلساً بعد مجلس. وأنا لا يثبت في قلبي شيء مما أسمعه من المدرسين إلى أن جلست إلى شيخ كلّما تكلّم بكلام نبت في قلبي وحفظته. فقلت: من هذا الشيخ ؟ فقيل لي: أبو الحسن ابن حرزهم. فلمّا فرغ دنوت منه وقلت له : حضرت مجالس كثيرة فلم أثبت على ما يقال. وأنت كلّ ما سمعت منك حفظته. فقال لي: هم يتكلّمون بأطراف ألسنتهم فلا يجاوز كلامهم الآذان، وأنا قصدت الله بكلامي فخرج من القلب. فلازمته.}

… فلازمه الشيخ أبو مدين، رضي الله عنه، وقرأ عليه « رعاية » المحاسبي، وفهّمها له.

ولقي بفاس الأشياخ الأخيار والفضلاء وقرأ على الشيخ الفقيه أبي الحسن ابن غالب، فقيه فاس، كتاب السنن لأبي عيسى الترمذي. وأقام بفاس مدّة طويلة لطلب العلم.

قال الشيخ أبو مدين :{وكنت إذا سمعت تفسير آية من كتاب الله تعالى، ومعه حديث واحد من أحاديث رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم-قنعت بهما وانصرفت إلى خارج فاس لموضع خال من النّاس اتّخذته مأوى للعمل بما يفتح علي من الآية والحديث. ثمّ أعود إلى فاس، فآخذ آية وحديثا وأخرج إلى خلوتي. قال: وكنت إذا جلست بذلك المكان تأتيني غزالة تأوي إليّ، تشمّني من قرني إلى قدمي وتؤنسني. فذهبت يومًا، كان يوم الخميس، إلى فاس وبتّ بها يوم الجمعة، فلقيني رجل من الأندلس أعرفه. قسلّم عليّ وكان عندي ثوب مودع عند رجل من الأصحاب. فسألته عنه وقلت له: بعه لي، فإنّي أريد أن أدفع ثمنه لضيف وصل إليّ من الأندلس. فباعه بعشرة دراهم ودفعها إليّ. فطلبت الرّجل، فلم أجده. فربطت الدّراهم في خرقة وجعلتها في مئزري، وخرجت إلى خلوتي على عادتي. وكانت في طريقي عمارة فيها جملة كلاب، ما رأيت أذى منهم قط، بل كانوا يدورون بي ويبصبصون لي. فلمّا قربت من القرية خرجوا إليّ واشتدّ نبحهم حتّى خرج أهل القرية وحالوا بيني وبينهم. ثمّ وصلت إلى خلوتي. فجاءت الغزالة، فنظرتني نظرا منكرا. ثمّ صارت تنطحني بقرونها وأنا اتّقيها بيدي. ففكّرت في أمري وما رأيت من نباح الكلاب علي ونطح الغزالة. فقلت: إنّ ذلك من أجل الدّراهم الّتي معي. فحللت الصرّة ورميتها. فسكتت الغزالة وركنت إليّ على عادتها. فلمّا انصرفت إلى فاس، أخذت الصرة وحملتها معي. فلمّا دخلت فاسا لقيت الرجل الأندلسي، فدفعتها له، ثمّ خرجت إلى موضعي ومررت بالقرية فبصبصت لي الكلاب على عادتها. فجائتني الغزالة وشمّتني من قرني إلى قدمي، وركنت إليّ على عادتها.}

قال الشيخ أبو مدين:{وكنت أيّام إقامتي بفاس أزور الشيخ أبا يعزى. وأوّل زيارتي له أنّي رأيت جماعة تحدثوا على كراماته ونووا زيارته. فذهبت معهم إليه. فلمّا وصلنا، أقبل على القوم دوني. وأحضر الطّعام، فمنعني من الأكل معهم. فإذا حضر الطّعام وقمت إليه انتهرني.

فأقول في نفسي: هؤلاء من هذه العدوة أقبل عليهم، وأنا أندلسي. فأقمت كذلك ثلاثة أيّام وقد أجهدني الجوع والذلّ، ثمّ قلت في نفسي:  » إذا قام الشيخ من مكانه، أمرّغ وجهي في ذلك المكان ». فقام ومرغت وجهي. فلمّا رفعت رأسي لم أبصر شيئًا. فقلت عميت. فبقيت طول ليلي باكياً متضرّعا. فلمّا أصبح استدعاني وقال لي: أقرب يا أندلسي. فدنوت منه وقمت لا أبصر شيئًا. فمسح بيده على عيني. فعاد بصري. قمّ مسح بيده على صدري، وقال للحاضرين: هذا يكون منه كذا وكذا. فاستأذنته في الانصراف، فأذن لي وقال لي: – ترى الأسد يعترضك في الطّريق، فلا يروعك. فإن اشتدّ خوفك فقل له: بحرمة أبي يعزى، اذهب عنّي. ثمّ تجد ثلاثة من اللصوص عند شجرة، فتعظهم، فيتوب اثنان ويضرب عنق الثالث ويصلب على تلك الشجرة.}

قال الشيخ أبو مدين-رضي الله عنه-:{فلقيني الأسد في الطّريق، فأقسمت عليه بأبي يعزى فتنحّى عنّي وخرج عن الطّريق. فلمّا خرجت من الشعب تعرّض لي ثلاثة من الرّجال، فوعظتهم، فأثّر كلامي في قلب اثنين منهم. فانصرفا وعاد الثالث إلى الشجرة. فسمع به بعض الولاة، فأخذه وضرب عنقه وصلبه على تلك الشجرة.}

وكان الشيخ أبومدين يكرر زيارة الشيخ أبي يعزى. وكان أبو يعزى يقول: »آشك آركاز الأندلسي » ومعناه: أشك الرجل الأندلسي. فنال أبومدين من بركاته وشاهد العجائب من كراماته. وكان يتردّد إلى مجالس العلماء في مدينة فاس وخصوصا مجالس الشيخ أبي الحسن ابن حرزهم، حتّى فتح الله عليه بالمواهب العلية والأسرار الربانية وحقق التوجه والعمل وبلغ في مقامه الأمل.

قال محيي الدين بن العربي الحاتمي الطائي:

 » لم يمت حتّى تقطّب قبل أن يغرغر بثلاث ساعات »

والقطبية للعارف منتهى آماله وغاية مناله. ثمّ انصرف مشرقا وتردد في بلاد إفريقية واستوطن في الآخر بجاية وكثرت تلامذته وظهرت بركاته عليهم. يقال أنّه خرج على يده ألف تلميذ وظهرت لكلّ واحد منهم الكرامة والبركة. لذلك يقال له شيخ مشائخ الإسلام وإمام العباد والزهاد.

قال بعض الصالحين:

« رأيت النّبي-صلّى الله عليه وسلّم-في النّوم ومعه أبو مدين وأبو حامد. ثمّ سأل أبو حامد أبا مدين-رضي الله عنهما-بين يدي رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، فقال: – ما روح الروح؟

فقال له أبو مدين: المعرفة.

قال: فما روح المعرفة ؟

قال: اللذّة.

قال: فما روح اللذّة؟

قال: نظرة إليه.

ثمّ غشيهم نور عظيم، فأخذتهم الملائكة وصعدت بهم حتّى غابوا في الهواء.

فقلت: هذه درجة علية ومكانة سنية ».

وكان الشيخ أبو مدين-رضي الله عنه- يُلجأ إليه في حلّ المشكلات. فيأتي بأبدع التّأويلات.

ذكر بعضهم أنّه وقع نزاع بين الطّلبة في قوله-صلى الله عليه وسلّم-: »إذا مات المؤمن أعطي نصف الجنّة ». فتردّد الكلام بينهم في أنّ مؤمنين إذا ماتا استحقا الجنة بكمالها. فصاروا إلى مجلس الشيخ أبي مدين-رضي الله عنه- ليطلعوا على ما عنده في المسألة. فوجدوه جالسا يقرأ رسالة القشيري. فلمّا استقرّ بهم الجلوس، سكت الشيخ أبو مدين عن الكلام الذي كان فيه وقال:

{نزيل الإشكال عن أصحابنا من غير أن يسألوه}

فقال لهم:

{إنّما أراد رسول الله-صلى الله عليه وسلّم-نصف جنته، لأنّ لكلّ مؤمن جنّة تخصّه. فإذا مات أعطي نصف جنّته وبعد الحشر يعطى النّصف الثّاني.}

ثمّ زاد في هذا الكلام، وتكلّم كيف يكشف للمؤمن عن مقعده في الجنّة وتنعمه بتلك الرؤية واتصال الأرواح وغير ذلك ممّا يناسب هذا الكلام.

وفي هذا من العلم ما لا ينتهي إلى حقيقته إلاّ أهل الصفا وأصحاب المواهب كالسيخ أبي مدين-رضي الله عنه-وجعلنا الله من حزبه بفضله.

وكان الشيخ-رضي الله عنه-مشغولا بالتربية والإفادة والتّعليم والعبادة والإقبال على الله تعالى في الظّاهر والباطن. وقد ألّف بعض الفضلاء في كراماته. وله بالنّسبة لكلّ إنسان كلمات حسان في أصول هذا الشأن بالكلام العجيب والمنزع الغريب. وأنا أورد من ذلك ما لا بدّ منه ممّا صحّحته بالواسطة عنه.

وكلّ كلمة من كلامه إذا اقتصر المقتصر عليها، فتح عليه بسببها ونال المؤمل من طلبها وحصل له المرام وميز بالفضل بين العباد ولولا الإطالة لبينت لك كل كلمة على شواهدها وظهور فوائدها بطريق الصوفية وعوائدها.

لكن في حفظها والعمل بها ما يرقي إلى منازل الأبرار ويوصل إلى عالم المقربين الأخيار. جعل الله السعي في ذلك موصلا إلى الزلفى لديه. إنّه ولي ذلك والقادر عليه.

فمن كلامه-رضي الله عنه-:

{أسماء الله تعالى بها تعلق وتخلق وتحقق.

فالتعلّق الشعور بمعنى الاسم ؛

والتخلق أن يقوم بك معنى الاسم ؛

والتّحقّق أن تفنى في معنى الاسم }.

وقال:{الحقّ-تعالى-مطّلع على السّرائر والضّمائر في كلّ نفس وحال. فأيّ قلب رآه مؤثرا له حفظه من الطّوارئ والمحن ومضلات الفتن}.

وقال:{إيّاك أن تميل إلى غير الله، فيسلبك لذّة مناجاته}.

وقال:{من رأيته يدّعي مع الله-تعالى-حالا لا يكون على ظاهره شاهد منه، فاحذره}.

وقال:{من رزق حلاوة المناجاة زال عنه النّوم}.

وقال:{من عرف اللهَ استفاد منه في اليقظة والنوم}.

وقال:{لا يصلح سماع هذا العلم إلاّ لمن حصلت له أربعة: الزهد والعلم والتوكّل واليقين}.

وقال:{اجعل الصبر زادك، والرضى مطيتك، والحق مقصدك ووجهتك}.

وقال:{من تعلّق بدعوى الأماني لا يفارق التواني}.

وقال:{من اشتغل بطلب الدنيا ابتلي فيها بالذلّ}.

وقال:{جعل الله قلوب أهل الدنيا محلا للغفلة والوساوس وقلوب العارفين محلا للذكر والاستئناس}.

وقال:

{لا ينفع مع الكِبْر عملٌ ولا يضرّ مع التّواضع بطالة}.

وقال:{الفترة الاشتغال بالخلق عن الخالق}.

وقال:{الهوى قليل في أهل الصّلاح}.

وقال:{من لم يجد في قلبه زاجراً فهو خراب}.

وقال:{توكّل على الله حتّى يكون الغالب على ذكرك، فإنّ الخلق لن يغنوا عنك شيئاً}.

وقال:{بالمحاسبة يصل العبد إلى درجة المراقبة}.

وقال:{من أهمل الفرائض فقد ضيّع نفسه}.

وقال:{من عرف نفسه لم يغتر بثناء الناس عليه}.

وقال:{الدعوى من رعونة النفس}.

وقال:{أبناء الدّنيا يخدمهم العبيد والإماء، وأبناء الآخرة الأحرار والكرماء}.

وقال:{من خدم الصّالحين ارتفع بخدمته}.

وقال:{من حرم احترام الأولياء ابتلاه الله بالمقت من خلقه}.

وقال:{ثمرة التّصوّف تسليم كلّه}.

وقال:{من ترك التّدبير والاختيار طاب عيشه}.

وقال:{مروءتك إغضاؤك عن تقصير غيرك}.

وقال:{الغيبة عن الحقّ خيبة}.

وقال:{التّعظيم امتلاء القلب بإجلال الرّبّ}.

وقال:{المهمل في الأحوال لا يصلح لبساط الحقّ}.

 

وقال:{كلّ حقيقة لا تمحو أثر العبد ورسمه فليست بحقيقة}.

وقال:{ما عرف الحقّ من لم يؤثره، وما أعطاه من لم يشكره}.

وقال:{المروءة موافقة الإخوان في ما لا يحظره العلم عليك}.

وقال:{قوّة العارف بمعروفه وقوة الغير بمعتاده ومألوفه}.

وقال:{من أراد الصفا فليلتزم الوفا}.

وقال:{أسس هذا الشّأن على الزّهد والاجتهاد}.

وقال:{اِلتذاذك بالبلاء تحقيق بالرضى}.

وقال:{الفقر إمارة على التّوحيد ودلالة على التّفريد}.

وقال:{الزّهد فريضة وفضيلة وقربة. فالفرض في الحرام والفضل في المتشابه والقربة في الحلال}.

وقال:{من قطع موصولا بربه قطع به}.

وقال:{من شغل مشغولا بربه أدركه المقت}.

وقال:{يا نفس هذه موعظة لك إن استيقظت}.

وقال:{من استكن لغير الله-تعالى-نزع الله الرحمة من قلبه}.

وقال:{علامة الإخلاص أن يغيب عنك الخلق في مشاهدة الحقّ}.

وقال:{اِحذر صحبة النّساء اِتّقاءً على إيمان قلبك}.

واعلم أنّ كلام الشيخ-رضي الله عنه-كلّه دالّ على علوّ مقامه وبديع قصده ومرامه.

وأمّا كراماته وأحواله الصادقة والخبر الصادق فكثير.

وبلغ-رحمه الله-من الورع مقاما عليا ونال من الزّهد وا

أنّ الشيخ العارف المحقّق الواحد القطب أبا مدين، نفع الله به، هو شعيب بن حسين الأنصاري الأندلسي الأصل من أحواز إشبيلية.

كان زاهدًا في الدنيا، عارفا بالله تعالى، وخاض بحاراً من الأحوال، ونال من المعارف الربانية الآمال. ومقامه الخاص به الذي لا يلحقه فيه أحد، التّوكّل على الله تعالى.

وكان له بسط وقبض. فبسطه بالعلم، وقبضه بالمراقبة.

ولمّا توفيّ أبوه، كلّفه إخوته رعي مواشيهم لأنّه أصغرهم سنًّا. فكان يخرج بها إلى المرعى. فإذا رأى مصليا أو قارئًا دنا منه ووجد في نفسه غمًّا عظيمًا من كونه لا يفعل مثله. فيحدّث إخوته ما يجده فينهونه ويأمرونه بالاشتغال بالرعاية حتّى اشتدّ غمّه لذلك وقويت عزيمته على سلوك هذه المسالك. فترك الماشية وفرّ طالبا لما مالت إليه نفسه بتوفيق الله. فردّه أحد إخوته وهدّده بالحربة. ثمّ قوي عزمه وفرّ بالليل. فأدركه بعض إخوته وسلّ عليه السّيف وضربه. فتلقى الضربة بعود كان بيده، فتكسّر السيف أجزاء. فعجب أخوه من ذلك وقال له: » يا أخي اِذهب حيث شئت ».

قال الشيخ أبو مدين: {فسرت حتّى وصلت البحر ووجدت خيمة فيها ناس. فخرج إليّ منها شيخ فسألني عن أمري. فأخبرته. فجلست عنده. فإذا رجعت رمى بخيط في طرفه مسمار. فأخذ حوتا ويطعمه لي مشويا. ثمّ قال لي: -انصرف إلى الحاضرة حتّى تتعلّم العلم ؛ فإنّ الله تعالى لا يعبد إلاّ بالعلم. قال: فخرجت إلى العدوة، ونزلت بطنجة، وانصرفت من هنالك إلى مراكش وقصدت جماعة الأندلس. فكتبوا اسمي في زمام الأجناد. فقلت لبعضهم: إنّما جئت للقراءة. فقال لي: عليك بفاس. فسرت إليها زلازمت جامعها ورغبت من علمني أحكام الوضوء والصلاة، ثمّ سألت عن مجالس العلماء. فسرت إليها مجلساً بعد مجلس. وأنا لا يثبت في قلبي شيء مما أسمعه من المدرسين إلى أن جلست إلى شيخ كلّما تكلّم بكلام نبت في قلبي وحفظته. فقلت: من هذا الشيخ ؟ فقيل لي: أبو الحسن ابن حرزهم. فلمّا فرغ دنوت منه وقلت له : حضرت مجالس كثيرة فلم أثبت على ما يقال. وأنت كلّ ما سمعت منك حفظته. فقال لي: هم يتكلّمون بأطراف ألسنتهم فلا يجاوز كلامهم الآذان، وأنا قصدت الله بكلامي فخرج من القلب. فلازمته.}

… فلازمه الشيخ أبو مدين، رضي الله عنه، وقرأ عليه « رعاية » المحاسبي، وفهّمها له.

ولقي بفاس الأشياخ الأخيار والفضلاء وقرأ على الشيخ الفقيه أبي الحسن ابن غالب، فقيه فاس، كتاب السنن لأبي عيسى الترمذي. وأقام بفاس مدّة طويلة لطلب العلم.

قال الشيخ أبو مدين :{وكنت إذا سمعت تفسير آية من كتاب الله تعالى، ومعه حديث واحد من أحاديث رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم-قنعت بهما وانصرفت إلى خارج فاس لموضع خال من النّاس اتّخذته مأوى للعمل بما يفتح علي من الآية والحديث. ثمّ أعود إلى فاس، فآخذ آية وحديثا وأخرج إلى خلوتي. قال: وكنت إذا جلست بذلك المكان تأتيني غزالة تأوي إليّ، تشمّني من قرني إلى قدمي وتؤنسني. فذهبت يومًا، كان يوم الخميس، إلى فاس وبتّ بها يوم الجمعة، فلقيني رجل من الأندلس أعرفه. قسلّم عليّ وكان عندي ثوب مودع عند رجل من الأصحاب. فسألته عنه وقلت له: بعه لي، فإنّي أريد أن أدفع ثمنه لضيف وصل إليّ من الأندلس. فباعه بعشرة دراهم ودفعها إليّ. فطلبت الرّجل، فلم أجده. فربطت الدّراهم في خرقة وجعلتها في مئزري، وخرجت إلى خلوتي على عادتي. وكانت في طريقي عمارة فيها جملة كلاب، ما رأيت أذى منهم قط، بل كانوا يدورون بي ويبصبصون لي. فلمّا قربت من القرية خرجوا إليّ واشتدّ نبحهم حتّى خرج أهل القرية وحالوا بيني وبينهم. ثمّ وصلت إلى خلوتي. فجاءت الغزالة، فنظرتني نظرا منكرا. ثمّ صارت تنطحني بقرونها وأنا اتّقيها بيدي. ففكّرت في أمري وما رأيت من نباح الكلاب علي ونطح الغزالة. فقلت: إنّ ذلك من أجل الدّراهم الّتي معي. فحللت الصرّة ورميتها. فسكتت الغزالة وركنت إليّ على عادتها. فلمّا انصرفت إلى فاس، أخذت الصرة وحملتها معي. فلمّا دخلت فاسا لقيت الرجل الأندلسي، فدفعتها له، ثمّ خرجت إلى موضعي ومررت بالقرية فبصبصت لي الكلاب على عادتها. فجائتني الغزالة وشمّتني من قرني إلى قدمي، وركنت إليّ على عادتها.}

قال الشيخ أبو مدين:{وكنت أيّام إقامتي بفاس أزور الشيخ أبا يعزى. وأوّل زيارتي له أنّي رأيت جماعة تحدثوا على كراماته ونووا زيارته. فذهبت معهم إليه. فلمّا وصلنا، أقبل على القوم دوني. وأحضر الطّعام، فمنعني من الأكل معهم. فإذا حضر الطّعام وقمت إليه انتهرني.

فأقول في نفسي: هؤلاء من هذه العدوة أقبل عليهم، وأنا أندلسي. فأقمت كذلك ثلاثة أيّام وقد أجهدني الجوع والذلّ، ثمّ قلت في نفسي:  » إذا قام الشيخ من مكانه، أمرّغ وجهي في ذلك المكان ». فقام ومرغت وجهي. فلمّا رفعت رأسي لم أبصر شيئًا. فقلت عميت. فبقيت طول ليلي باكياً متضرّعا. فلمّا أصبح استدعاني وقال لي: أقرب يا أندلسي. فدنوت منه وقمت لا أبصر شيئًا. فمسح بيده على عيني. فعاد بصري. قمّ مسح بيده على صدري، وقال للحاضرين: هذا يكون منه كذا وكذا. فاستأذنته في الانصراف، فأذن لي وقال لي: – ترى الأسد يعترضك في الطّريق، فلا يروعك. فإن اشتدّ خوفك فقل له: بحرمة أبي يعزى، اذهب عنّي. ثمّ تجد ثلاثة من اللصوص عند شجرة، فتعظهم، فيتوب اثنان ويضرب عنق الثالث ويصلب على تلك الشجرة.}

قال الشيخ أبو مدين-رضي الله عنه-:{فلقيني الأسد في الطّريق، فأقسمت عليه بأبي يعزى فتنحّى عنّي وخرج عن الطّريق. فلمّا خرجت من الشعب تعرّض لي ثلاثة من الرّجال، فوعظتهم، فأثّر كلامي في قلب اثنين منهم. فانصرفا وعاد الثالث إلى الشجرة. فسمع به بعض الولاة، فأخذه وضرب عنقه وصلبه على تلك الشجرة.}

وكان الشيخ أبومدين يكرر زيارة الشيخ أبي يعزى. وكان أبو يعزى يقول: »آشك آركاز الأندلسي » ومعناه: أشك الرجل الأندلسي. فنال أبومدين من بركاته وشاهد العجائب من كراماته. وكان يتردّد إلى مجالس العلماء في مدينة فاس وخصوصا مجالس الشيخ أبي الحسن ابن حرزهم، حتّى فتح الله عليه بالمواهب العلية والأسرار الربانية وحقق التوجه والعمل وبلغ في مقامه الأمل.

قال محيي الدين بن العربي الحاتمي الطائي:

 » لم يمت حتّى تقطّب قبل أن يغرغر بثلاث ساعات »

والقطبية للعارف منتهى آماله وغاية مناله. ثمّ انصرف مشرقا وتردد في بلاد إفريقية واستوطن في الآخر بجاية وكثرت تلامذته وظهرت بركاته عليهم. يقال أنّه خرج على يده ألف تلميذ وظهرت لكلّ واحد منهم الكرامة والبركة. لذلك يقال له شيخ مشائخ الإسلام وإمام العباد والزهاد.

قال بعض الصالحين:

« رأيت النّبي-صلّى الله عليه وسلّم-في النّوم ومعه أبو مدين وأبو حامد. ثمّ سأل أبو حامد أبا مدين-رضي الله عنهما-بين يدي رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، فقال: – ما روح الروح؟

فقال له أبو مدين: المعرفة.

قال: فما روح المعرفة ؟

قال: اللذّة.

قال: فما روح اللذّة؟

قال: نظرة إليه.

ثمّ غشيهم نور عظيم، فأخذتهم الملائكة وصعدت بهم حتّى غابوا في الهواء.

فقلت: هذه درجة علية ومكانة سنية ».

وكان الشيخ أبو مدين-رضي الله عنه- يُلجأ إليه في حلّ المشكلات. فيأتي بأبدع التّأويلات.

ذكر بعضهم أنّه وقع نزاع بين الطّلبة في قوله-صلى الله عليه وسلّم-: »إذا مات المؤمن أعطي نصف الجنّة ». فتردّد الكلام بينهم في أنّ مؤمنين إذا ماتا استحقا الجنة بكمالها. فصاروا إلى مجلس الشيخ أبي مدين-رضي الله عنه- ليطلعوا على ما عنده في المسألة. فوجدوه جالسا يقرأ رسالة القشيري. فلمّا استقرّ بهم الجلوس، سكت الشيخ أبو مدين عن الكلام الذي كان فيه وقال:

{نزيل الإشكال عن أصحابنا من غير أن يسألوه}

فقال لهم:

{إنّما أراد رسول الله-صلى الله عليه وسلّم-نصف جنته، لأنّ لكلّ مؤمن جنّة تخصّه. فإذا مات أعطي نصف جنّته وبعد الحشر يعطى النّصف الثّاني.}

ثمّ زاد في هذا الكلام، وتكلّم كيف يكشف للمؤمن عن مقعده في الجنّة وتنعمه بتلك الرؤية واتصال الأرواح وغير ذلك ممّا يناسب هذا الكلام.

وفي هذا من العلم ما لا ينتهي إلى حقيقته إلاّ أهل الصفا وأصحاب المواهب كالسيخ أبي مدين-رضي الله عنه-وجعلنا الله من حزبه بفضله.

وكان الشيخ-رضي الله عنه-مشغولا بالتربية والإفادة والتّعليم والعبادة والإقبال على الله تعالى في الظّاهر والباطن. وقد ألّف بعض الفضلاء في كراماته. وله بالنّسبة لكلّ إنسان كلمات حسان في أصول هذا الشأن بالكلام العجيب والمنزع الغريب. وأنا أورد من ذلك ما لا بدّ منه ممّا صحّحته بالواسطة عنه.

وكلّ كلمة من كلامه إذا اقتصر المقتصر عليها، فتح عليه بسببها ونال المؤمل من طلبها وحصل له المرام وميز بالفضل بين العباد ولولا الإطالة لبينت لك كل كلمة على شواهدها وظهور فوائدها بطريق الصوفية وعوائدها.

لكن في حفظها والعمل بها ما يرقي إلى منازل الأبرار ويوصل إلى عالم المقربين الأخيار. جعل الله السعي في ذلك موصلا إلى الزلفى لديه. إنّه ولي ذلك والقادر عليه.

فمن كلامه-رضي الله عنه-:

{أسماء الله تعالى بها تعلق وتخلق وتحقق.

فالتعلّق الشعور بمعنى الاسم ؛

والتخلق أن يقوم بك معنى الاسم ؛

والتّحقّق أن تفنى في معنى الاسم }.

وقال:{الحقّ-تعالى-مطّلع على السّرائر والضّمائر في كلّ نفس وحال. فأيّ قلب رآه مؤثرا له حفظه من الطّوارئ والمحن ومضلات الفتن}.

وقال:{إيّاك أن تميل إلى غير الله، فيسلبك لذّة مناجاته}.

وقال:{من رأيته يدّعي مع الله-تعالى-حالا لا يكون على ظاهره شاهد منه، فاحذره}.

وقال:{من رزق حلاوة المناجاة زال عنه النّوم}.

وقال:{من عرف اللهَ استفاد منه في اليقظة والنوم}.

وقال:{لا يصلح سماع هذا العلم إلاّ لمن حصلت له أربعة: الزهد والعلم والتوكّل واليقين}.

وقال:{اجعل الصبر زادك، والرضى مطيتك، والحق مقصدك ووجهتك}.

وقال:{من تعلّق بدعوى الأماني لا يفارق التواني}.

وقال:{من اشتغل بطلب الدنيا ابتلي فيها بالذلّ}.

وقال:{جعل الله قلوب أهل الدنيا محلا للغفلة والوساوس وقلوب العارفين محلا للذكر والاستئناس}.

وقال:

{لا ينفع مع الكِبْر عملٌ ولا يضرّ مع التّواضع بطالة}.

وقال:{الفترة الاشتغال بالخلق عن الخالق}.

وقال:{الهوى قليل في أهل الصّلاح}.

وقال:{من لم يجد في قلبه زاجراً فهو خراب}.

وقال:{توكّل على الله حتّى يكون الغالب على ذكرك، فإنّ الخلق لن يغنوا عنك شيئاً}.

وقال:{بالمحاسبة يصل العبد إلى درجة المراقبة}.

وقال:{من أهمل الفرائض فقد ضيّع نفسه}.

وقال:{من عرف نفسه لم يغتر بثناء الناس عليه}.

وقال:{الدعوى من رعونة النفس}.

وقال:{أبناء الدّنيا يخدمهم العبيد والإماء، وأبناء الآخرة الأحرار والكرماء}.

وقال:{من خدم الصّالحين ارتفع بخدمته}.

وقال:{من حرم احترام الأولياء ابتلاه الله بالمقت من خلقه}.

وقال:{ثمرة التّصوّف تسليم كلّه}.

وقال:{من ترك التّدبير والاختيار طاب عيشه}.

وقال:{مروءتك إغضاؤك عن تقصير غيرك}.

وقال:{الغيبة عن الحقّ خيبة}.

وقال:{التّعظيم امتلاء القلب بإجلال الرّبّ}.

وقال:{المهمل في الأحوال لا يصلح لبساط الحقّ}.

 

وقال:{كلّ حقيقة لا تمحو أثر العبد ورسمه فليست بحقيقة}.

وقال:{ما عرف الحقّ من لم يؤثره، وما أعطاه من لم يشكره}.

وقال:{المروءة موافقة الإخوان في ما لا يحظره العلم عليك}.

وقال:{قوّة العارف بمعروفه وقوة الغير بمعتاده ومألوفه}.

وقال:{من أراد الصفا فليلتزم الوفا}.

وقال:{أسس هذا الشّأن على الزّهد والاجتهاد}.

وقال:{اِلتذاذك بالبلاء تحقيق بالرضى}.

وقال:{الفقر إمارة على التّوحيد ودلالة على التّفريد}.

وقال:{الزّهد فريضة وفضيلة وقربة. فالفرض في الحرام والفضل في المتشابه والقربة في الحلال}.

وقال:{من قطع موصولا بربه قطع به}.

وقال:{من شغل مشغولا بربه أدركه المقت}.

وقال:{يا نفس هذه موعظة لك إن استيقظت}.

وقال:{من استكن لغير الله-تعالى-نزع الله الرحمة من قلبه}.

وقال:{علامة الإخلاص أن يغيب عنك الخلق في مشاهدة الحقّ}.

وقال:{اِحذر صحبة النّساء اِتّقاءً على إيمان قلبك}.

واعلم أنّ كلام الشيخ-رضي الله عنه-كلّه دالّ على علوّ مقامه وبديع قصده ومرامه.

وأمّا كراماته وأحواله الصادقة والخبر الصادق فكثير.

وبلغ-رحمه الله-من الورع مقاما عليا ونال من الزّهد والتحقيق منالا سنيا تبعه فيه المتقون واقتدى به المحققون ولازمه المصدقون.

وله أشيخ مشاهير وإخوان جماهير وأصحاب جواهر.

وأنا أشير إلى بعضهم قصد التبرك به وبهم وليس المراد التعريف بالرجال وإنّما المراد بعض ذكر شواهد الأحوال لتحقيق منالا سنيا تبعه فيه المتقون واقتدى به المحققون ولازمه المصدقون.

 وله أشيخ مشاهير وإخوان جماهير وأصحاب جواهر.

وأنا أشير إلى بعضهم قصد التبرك به وبهم وليس المراد التعريف بالرجال وإنّما المراد بعض ذكر شواهد الأحوال.

إعداد: محمد بن أحمد باغلي