الباب 71 في أسرار الصّوم

للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي

560-638هـ

1165-1240م

يَا  ضَاحِكًا     فِي  صُورَةِ  البَاكِي *

أَنْتَ  بِـــــــنَا المَشْكُوُّ وَالشَّاكِي

الصَّوْمُ    إِمْسَاكٌ       بِلاَ    رِفْعَةٍ *

وَرِفْعَةٌ   مِنْ غَيْــــــــــرِ إِمْسَاكِ

وَقَــدْ يَكُونَانِ مَعًا عِنْـــــــــــدَ مَنْ *

يَثْبِتُ تَوْحيدًا بِإِشْـــــــــــرَاكِ *

صِيــدَتْ عُقُولٌ عَنْ تَصَارِيفِـــــهَا *

بِلاَ حِبَالاَتٍ وَأَشْـــــــــــــــــرَاكِ

صِيــدَتْ عُقُولٌ عَنْ تَصَارِيفِـــــهَا *

بِصَارِمٍ لِلشَّــــــــــــرْعِ بَتَّاكِ *

فَسَلِـمْتَ   مَا  رُدَّ  بُـــــــــرْهَانُـهَا *

وَآمَنْتَ مِنْ غَيْـــــــــــــرِ إِدْرَاكِ

جَـرَى بِهَا نَجْـمُ الهُــــدَى  سَابِحًا *

مَا     بَيْنَ      أَمْلاَكٍ     بِأَفْلاَكِ

لَوْلاَكَ يَا نَفْسِي لَمَا كُنْتَــــــــــــــهُ *

كَأَنَّـــــــــــــهُ    لَوْلاَكَ    لَوْلاَكِ

صُومِي عَنِ الكَوْنِ  وَلاَ تَفْطِــرِي *

بِذَا إِلَــــــــــــــــهُ الخَلْقِ أَوْلاَكِ

وَانْوِي بِذَاكَ الصَّوْمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ *

فَإِنَّــــــــــــــــــهُ بِالطَّبْعِ غَذَّاكِ

فِي الصَّوْمِ مَعْنَى لَوْ تَدَبَّـــرْتَــــــهُ *

مَا حَلَّ مَخْلُوقٌ بِــــــــــــمَغْنَاكِ

لاَ  مِثْلٌ  لِلصَّوْمِ      كَذَا   قَالَ  لِي *

شَارِعُــــــــــــهُ فَـدَبِّـــرِي ذَاكِ

    لِأَنَّهُ تَــــــــــــــــــــرك فَأَيْنَ الَّذِي *

عَـــــــــــــمِلْتَـهُ أَوْ أَيْنَ دَعْوَاكِ

قَدْ رَجَعَ الأَمْــــــــــــــرُ إِلَى أَصْلِهِ *

بِذَاكَ رَبِّي قَــــــــــــــــدْ تَوَلاَّكِ

وَالصَّوْمُ إِنْ فَكَّــــــــرْتَ فِي حُكْمِهِ *

وَأَصْلُ مَعْنَاهُ  بِـــــــــــــمَعْنَاكِ

ثُمَّ أَتَى مِنْ عِنْـــــــــــــدِهِ مُخْبِـــرٌ *

عَنْ صَوْمِكَ المَشْرُوعِ  عَرَاكِ

فَالصَّوْمُ لِلَّـــهِ   فَلاَ تَجْــــــــــهَلِي *

وَأَنْتَ         مَجْلاَهُ       فَإِيَّاكِ

الصَّوْمُ لِلَّـــــــــــــــــهِ وَأَنْت الَّتِي *

تَـمُوتُ جُوعًا  فَاعْلَــــمِي ذَاكِ

أَنَثكَ الرَّحْـــــــــــمَنُ مِنْ أَجْلِ مَنْ *

يَظْــــــــهَــرُ مِنْكَ حِينَ سَوَّاكِ

سُبْحَانَ مَنْ سَوَّاك  أَهْلاً لَــــــــــهُ *

وَلَــــــــــــــــــمْ يَنَلْ ذَلِكَ إِلاَّكِ

فَأَنْتَ كَالأَرْضِ فِــــــــــــــرَاشٌ لَهُ *

وَعَيْنُــــــــهُ المَنْعُوتُ بِالبَاكِي

وَصَنْعَةُ اللهِ تَــــرَى عَيْنُـــــــــــهَا *

بَيْنَكُـــــــــــــــمَا فَأَيْنَ مَجْلاَكِ

لَمَّا دَعَوْتَ اللـــــــــــــــهَ  مِنْ ذِلَّةٍ *

بِـــــــــــــهِ تَعَالَى بِكَ لَبَّاكِ *

وَالقَلَـــمُ الأَرْفَعُ فِي لَوْحِـــــــــــــهِ *

سَطَّـــرَ عَنْهُ وَصْفَكَ الزَّاكِي

فَأَنْتَ عَيْنُ الكُلِّ لاَ عَيْنُـــــــــــــــهُ *

أَدْنَاكَ مِنْ وَجْـــــهٍ وَأَقْصَاكِ

إِيَّاك أَنْ تَــرْضَى بِمَا تَـــــــرْتَضِي *

مِنْ أَجْلِ مَا يُــــرْضِيك إِيَّاكِ

كُونِي  عَلَى  أَصْلِك     فِي  كُلِّ  مَا *

يُـــرِيـــــدُ لاَ تَنْسَى فَيَنْسَاك

هَذَا هُوَ العِلْـــــــــــمُ الَّذِي جَاءَنِي *

مِنْ   قَائِلٍ   لَيْسَ    بِأَفَّاكِ *

أَنْزِلْهُ عَنْ أَمْـــــرِ عَلاَّمِـــــــــــــهِ *

مَا   بَيْنَ    زُهَّادٍ   وَنُسَّاكٍ *

وَالحَـــــــــــمْــدُ لِلَّهِ الَّذِي خَصَّنِي *

بِعِلْـــــــــــمِ أَضْوَاءِ وَأَحْلاَكِ

وَخَصَّنِي بِصُورَةٍ لَـــــــــــــمْ يَكُنْ *

كَــمَالُــــــــــهَا  إِلاَّ بِإِيوَاكِ *

*

إِعْلَمْ أَيَّدَكَ اللهُ ! أَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الإِمْسَاكُ وَالرِّفْعَةُ.

يُقَالُ: صَامَ النَّهَارُ إِذَا ارْتَفَعَ ؛

قَالَ امْرُؤُ القَيْسِ: * إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَرَا * أَيْ ارِتَفَعَ.

وَلَمَّا ارْتَفَعَ الصَّوْمُ عَنْ سَائِرِ العِبَادَاتِ كُلِّهَا فِي الدَّرَجَةِ، سُمِّيَ صَوْمًا.

وَرَفَعَهُ سُبْحَانَهُ بِنَفْيِ المِثْلِيَّةِ عَنْهُ فِي العِبَادَاتِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَسَلْبِهِ عَنْ عِبَادِهِ مَعَ تَعَبُّدِهِمْ بِهِ، وَأَضَافَ سُبْحَانَهُ، وَجَعَلَ جَزَاءُ مَنِ اتَّصَفَ بِهِ بِيَدِهِ مِنْ إِنَايَتِهِ، وَأَلْحَقَهُ بِنَفْسِهِ فِي نَفْيِ المِثْلِيَّةِ، وَهُوَ فِي الحَقِيقَةِ تَرْكٌ لاَ عَمَلٌ، وَنَفْيُ المِثْلِيَّةِ نَعْتٌ سَلْبِيٌّ، فَتَقَوَّتْ المُنَاسَبَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ.

قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ نَفْسِهِ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى11]

فَنَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُ مَثْلٌ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ لاَ مِثْلَ لَهُ بِالدَّلاَلَةِ العَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ.

وَخَرَّجَ النِّسَائِي عَنْ أَبِي أُمَامَة قَالَ:

« أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم- فَقُلْتُ:

مُرْنِي بِأَمْرٍ آخُذَهُ عَنْكَ،

قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لاَ مِثْلَ لَهُ »

فَنَفَى أَنْ يُمَاثِلَهُ عِبَادَةٌ مِنَ العِبَادَاتِ الَّتِي شَرَعَ لِعِبَادِهِ.

وَمَنْ عَرَفَ أَنَّهُ وَصْفٌ سَلْبِيٌّ إِذْ هُوَ تَرْكُ المُفْطِرَاتِ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ لاَ مِثْلَ لَهُ، إِذْ لاَ عَيْنَ لَهُ تَتَّصِفُ بِالوُجُودِ الَّذِي يُعْقَلُ،

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:

الصَّوْمُ لِي،

فَهُوَ عَلَى الحَقِيقَةِ لاَ عِبَادَة وَلاَ عَمَل،

وَاسْمُ العَمَلِ إِذَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ فِيهِ تَجَوَّزَ، كَإِطْلاَقِ لَفْظَةِ المَوْجُودِ عَلَى الحَقِّ المَعْقُولِ عِنْدَنَا تَجَوُّزًا، إِذْ كَانَ وُجُودُهُ عَيْنُ ذَاتِهِ، لاَ تُشْبِهُ نِسْبَةُ الوُجُودِ إِلَيْنَا، فَإِنَّهُ{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى11]

 إعداد: محمد بن أحمد باغلي